إيديث بياف: الدُّوريّ الصغير


كيلي ويتمان
ترجمة: تمام تلاوي

مقدمة المترجم:
هنالك العديد من الروايات التي تحدثت عن حياة المغنية الفرنسية الكبيرة إيديث بياف، كما عُرِضت المسرحيات وأخرجت الأفلام التي كان آخرها فيلم "الصبية" La M?me من توقيع المخرج أوليفر داهان في العام المنصرم. وفي الحقيقة، فإنه لم يتم الاتفاق على صياغة نهائية لمسيرة حياة هذه الفنانة، التي كانت مليئة بالأحداث الإشكالية والمأسوية في آن معاً، كما لم يستطع عمل واحد الإلمام بكافة جوانبها وتفاصيلها. وقد وجدت أثناء اطلاعي على حياة هذه الأسطورة الغنائية الفرنسية، الكثير من الاختلافات التي تصل أحياناً إلى درجة التناقض بين بعض المصادر التي تناولت حياتها. إلا أنني هنا اخترت مادة تحوي في طياتها على معلومات نادرة وجدلية لم ترد في بقية المصادر. ولا تتجلى أهمية هذه المادة في اعتمادها على مذكرات إيديث بياف التي كتبتها تحت عنوان "حياتي" وحسب، وإنما أيضاً بنقضها للأسطورة التي راجت طويلاً حول مكان ولادة إيديث بياف المزعوم على زاوية أحد الشوارع في جادة بيليفل في باريس، وفي تطرقها لبعض الجوانب شديدة الخصوصية والحساسية لدى بياف، ولا سيما مسألة علاقتها بالجيش النازي، وعلاقاتها الجنسية المتعددة كذلك.

***
الدوري الصغير
تقول الأسطورة إن إيديث بياف وُلدت على زاوية أحد الشوارع الباريسية بحضور اثنين من رجال البوليس. في الحقيقة، إن إيديث جيوفونا غازيون، ولدت في التاسع عشر من كانون الأول عام 1915، في مشفى تينون الواقع في جادة دو تشاين. ومن السهل تخمين سبب استمرار هذه الخرافة حتى وقتنا هذا، عند النظر إلى حياة إيديث بياف اللاحقة التي كانت مضطربة وإشكالية بما يكفي ليجعل من الولادة الطبيعية أمراً لا يتناسب ومجريات حياتها. لم يكن لدى إيديث ذلك الصبر من أجل التحقق من السيناريو الرائج حول ولادتها في الشارع، ذلك السيناريو الذي لازمها بشكل طبيعي طوال حياتها. وفي الواقع فإنها ربما أقنعت نفسها بأن تلك هي الحقيقة.
والدة إيديث، أنيتا جيوفانا ميلارد، كانت مغنية شوارع إيطالية؛ كانت مدمنة على الكحول، وتعمل مومساً في بعض الأوقات، وكانت معتادة على التجوال طوال حياتها بلا هدف، مسافرة مع فرق السيرك، تعيش في الأماكن العامة، وتصطاد الرجال من البارات. هكذا، ولمدة شهرين كاملين أهملت طفلتها الرضيعة، ثم تخلت عنها بعد ذلك لوالدها لويس غازيون. كان غازيون لاعباً شهيراً في السيرك، ولم يكن لديه لا الوقت ولا المهارات اللازمة لحضانة الرضيعة. فترك الطفلة لأمه، لويز، صاحبة أحد بيوت الدعارة في ليزيكس، التي قامت برعايتها خلال سنيّ طفولتها الأولى.
اعترفت إيديث أن تعرضها المبكر لحياة الدعارة قد حرّف نظرتها لطبيعة العلاقة بين الرجال والنساء. وقد كتبت في سيرتها الذاتية المعنونة "حياتي" قائلة: "إن هذه التنشئة جعلتني شديدة العاطفية.. لقد كنت أعتقد أنه بمجرد أن يشير رجل ما لفتاة، فإن عليها أن لا تتمنع أبداً. لقد اعتقدت أن سلوك النساء يجب أن يكون هكذا". إن اختلاطها المبكر بالرجال بهذه الطريقة، وعدم وفائها لهم في حياتها اللاحقة، يمكن أن يُعزى للدروس التي تعلمتها في ذلك الماخور في ليزيكس.
حينما أصبحت إيديث في عمر دخول المدرسة، قام والدها بتوظيفها لديه، وجعلها جزءاً من عروضه في السيرك والنوادي الليلية. وعلى الرغم من أن حياة والدها لم تكن مستقرة، فإنه أحب إيديث بعمق، وفعل ما بوسعه للعناية بها. في الخامسة عشرة من عمرها، كانت إيديث قد اكتسبت ما يكفي من حياة السيرك وعادت إلى باريس. في السادسة عشرة، حبلت من فتى يافع يعمل في توصيل الطلبات المنزلية، فأنجبت مارسيل، التي توفيت رضيعة بالتهاب السحايا. وكما هو حال أمها، فقد بدا أن لديها ضعفاً في المشاعر الأبوية. فلم يؤخذ لطفلتها سوى صورة واحدة في حياتها القصيرة، وتابعت إيديث بعدها حياتها سريعاً.
بعد وفاة الطفلة، تورطت إيديث مع قواد همجي يدعى ألبيرت. وادّعت بشكل غير مقنع، بأنها لم تعمل لديه مطلقاً كعاهرة، وإنما كانت تغني في الشارع، لتجمع النقود المعدنية التي كانت تسلمها له في نهاية اليوم. مرة أخرى تبدي إيديث هنا افتقارها للتعاطف مع الآخرين، إذ كانت مدركة جيداً لأفعال البيرت، الذي كان يضرب ويربط بالحبال أولئك النسوة اللواتي يجلبهن من البارات، لكن إيديث كانت سعيدة بمشاركته في غنائمه المكتسبة بطرق غير مشروعة، وكانت تقوم بتطعيم انتصاراته بالشامبانيا. ولم تتخلَّ عنه إلا بعد أن حوّل عنفه باتجاهها، عندما لطمها ذات مرة وصوب المسدس إلى رأسها.
تم اكتشاف موهبة إيديث عام 1935م، من قبل صاحب أحد النوادي الليلية يدعى لويس لوبلي. كانت مؤسسة لوبلي هذه تدعى "غيرني" وكان روادها من أبناء الطبقات العليا والدنيا في المجتمع على حد سواء، إسوة بالعديد من النوادي الليلية الباريسية في تلك الفترة. قام لوبلي بإقناع إيديث بالغناء في "غيرني" على الرغم من عصابيتها المفرطة، وأعطاها اسماً مستعاراً سيبقى ملازماً لها لبقية حياتها: الصبية بياف (أو الدوري الصغير، كما كانت تدعى غالبا بالإنكليزية، بالرغم من أن الترجمة الحرفية للاسم هي "الطفل الدُّوريّ") من هنا اكتسبت اسمها الفنيّ. كان تخصص بياف هو الأغاني العاطفية الراقصة، وبعد فترة قصيرة أصبحت باريس كلها تتحدث عن المتشردة صاحبة الصوت المحطِّم للقلوب. ابتدأت بإقامة صداقات مع المشاهير كالممثل موريس شوفالييه والشاعر جاك بورغيت.
في نيسان من العام 1936، قُضيَ تقريباً على مشروع إيديث الفني عندما عثر على مديرها لوبلي مقتولاً في شقته. وقد ذعرت عندما اعتُبرت مشتبهاً بها في القضية، إذ أن صيتها في مرافقة الشخصيات البغيضة أخلاقياً في المجتمع لم يكن ليساعدها في مثل هذا الوضع. عند نقطة الانحطاط هذه، توجهت إلى رجل أعمال يدعى ريمون أسو. ومع أن أسو كان متزوجاً، إلا أنه ساعد إيديث على تسوية أوضاعها مع البوليس، وبدأ معها علاقة عاصفة. سلّمته إيديث زمام أمورها الفنية، وتحت إدارته عاد نجمها للسطوع، وبعد فترة وجيزة كانت عروضها هي الأكثر رواجاً، وتحسن وضعها المادي بشكل كبير.
عام 1939، تركت إيديث أسو من أجل بول ميورس، وهو المغنّي الثري الذي قام بتقديمها إلى طبقة المجتمع الراقية الباريسية. وبينما كانت إيديث تستمتع بنمط حياتها الجديد، فإن علاقتها به لم تكن ممتعة، فكلا الطرفين كان عنيداً ومزاجياً، وكانت جدالاتهما غالباً ما تنتهي بالعنف. كانا صديقين للكاتب المسرحي جان كوكتو الذي استلهم مسرحيته "الحسناء الباردة" من علاقتهما المعقدة. وقامت إيديث بلعب دور البطولة في الإنتاج الأول للمسرحية عام 1940.
في هذه الأثناء كان الألمان يهددون بغزو البلاد. فقامت إيديث بتقديم عروضها لمساعدة الجيش الفرنسي، مع علمها بأن الأمل كان ضئيلاً. استُدعيَ ميورس للخدمة، لكن إيديث عادت للإطمئنان عندما رُفض ميورس في الجيش لأسباب طبية. جالا معاً في الأماكن غير المحتلة من فرنسا لكنهما أجبِرا في النهاية على العودة إلى باريس، إذ كان على جميع الفنانين تحت الاحتلال أن يقدموا موادهم تحت مقص الرقابة النازية. وقد تمت مضايقة البعض منهم أكثر من الآخرين، وبالنسبة للعديد من الناس فإن إيديث لم تتم مضايقتها بما يكفي. وفي الحقيقة، فإن إيديث بياف كانت تغني في كثير من الأوقات في الحفلات والولائم النازية. وعندما انتقلت للسكن في شقة تقع فوق أحد المواخير، استضافت إيديث وعناصر من غوستابو في شقتها. ادّعت لاحقاً أنها عضو في المقاومة، لكنها كصديقها موريس شوفالييه كانت موضع شك دائم. لا نعلم، من جهة أخرى، إن كانت قد ساعدت على الأقل يهودياً واحداً من معارفها ـ المؤلف الموسيقي ميشيل ايمير ـ على الهرب من فرنسا والموت.
لقد مرت إيديث بياف في مذكراتها مرور الكرام على الاحتلال، كما لو أنه أمر آخر يضاف إلى ما كان مهماً حقاً بالنسبة لها: حياتها العاطفية. ربما كانت تلك هي طريقتها في تجنب الحقائق، هذا إن كانت فعلاً قد تعاونت. لكن من المحتمل بالنسبة لشخص منشغل بنفسه كإيديث بياف، أن الحرب كانت بالنسبة لها عامل إثارة أكثر من كونها أمراً مأساوياً. كانت ترى أنه لا حاجة لتحليل الصراع مادام قد انتهى، ومادامت استعادت حياتها كما كانت قبله. وبالنسبة لشخص كان معروفاً من العامة بأنه متشرّد وبلا حوْل، فإن بياف أظهرت قدرة ملحوظة على التكيف، وقوة الإرادة ملحوظة. إذ أن "أنا" ها المتضخمة وطموحها الملتهب كانا يجعلانها تشعر بأنها قديسة.
خلال الحرب عاد والدا إيديث للظهور في حياتها. كانت سعيدة برؤية والدها، وقد استمرت بتقديم الدعم له حتى وفاته بعد عدة سنوات. وبالمقابل فقد كانت لأمها حكاية أخرى، كانت إيديث غالباً ما تستدعي عمال البار أو رجال البوليس لالتقاط المرأة السكرانة. تقول بياف: "يا لأمي البائسة.. لقد حاولت لأربع مرات حملها على تلقي العلاج، لكنها في كل مرة كانت تعود إلى رذائلها ثانية". كان موت أنيتا عام 1945 منحطاً كحياتها: وحيدة في غرفة فندق رخيص، وضحية لجرعة زائدة من المورفين.
هكذا، كانت حياتها مليئة بالمشاكل العائلية، كانت سنوات الحرب هي الأكثر إشكالية وإبداعاً بالنسبة لإيديث، وقد ألّفتْ أغنيتها الفريدة "الحياة الوردية" في منتصف فترة الإحتلال. قائمة الرجال الذين أقامت معهم بياف علاقات خلال تلك الفترة العصيبة تبدو كدفتر الهواتف الباريسي، لكن الأمور لم تكن لتصبح أفضل حالاً بالنسبة لها.
عام 1944، التقت بياف ايف مونتان، مغني الأندية الليلية المغمور. وكان رد فعلها الأول مفاجئاً، حيث تعاملت معه كأخرق، أو كمغنٍ عديم الموهبة استمع إليه الناس في زمن الحرب لأنهم لم يكن لديهم خيار آخر. أزعجها كثيراً ولعه بأغنيات رعاة البقر الأميركية. "لا أدري ما الذي يعجبكم به"، قالت إيديث لأصدقائها، "إنه يغني بشكل سيئ، ويرقص بشكل سيئ، ويفتقد الإحساس بالإيقاع. إن ذلك الرجل لا شيء". لكن المستمعين ورفاقه المغنين أحبوه على حد سواء، مما ضاعف من حنق إيديث أكثر. كتبت في مذكراتها: "كان يبدو أنه مسرور من نفسه لأنه أغضبني".
في إحدى أمسيات الفترة المتأخرة من الحرب، تم إقناع بياف من قبل بعض الأصدقاء بإعطاء مونتان فرصة أخيرة لأداء عرضه. وبالرغم من أنها لم تكن راضية كلياً عن أدائه، فإنها اعترفت على مضض بوجود مكامن كبيرة فيه للموهبة. عادت إيديث بعد ذلك ودخلت عليه في غرفة الملابس، لتقدم له اعتذارها عن الطريقة التي حطت بها من شأنه أمام الآخرين إلا أنها أخبرته بوضوح أنه مالم يغير أسلوبه في الغناء، فإنه لن يكون قادراً على الإستمرار. في الأشهر القليلة التالية، أقنعته بالتخلي عن أغنيات رعاة البقر وإلقاء النكات البلهاء. قالت له: "هناك نوع واحد فقط من الأغاني الجميلة.. إنها أغاني الحب". في البداية تفاجأ الجمهور، لكن مونتان أصبح في النهاية نجماً كبيراً في فرنسا، ومعروفاً حول العالم. كانت بياف دائماً ما تصر على أن علاقتها به كانت علاقة أفلاطونية صافية، وهذا الجزم كان معززاً بحقيقة أن مونتان لم يكن يبدي اهتماماً بها أكثر من باقي أصدقائها.
بعد الحرب، جالت إيديث في أوروبا، والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية، وأصبحت نجمة معروفة في العالم. لاحقاً، وفي عام 1951، تلقت بياف ضربة مأسوية إثر تعرضها لحادث سير مروع، سبب لها كسوراً في ذراعها وعدد من أضلاعها. وصف لها الأطباء المورفين، وسرعان ما أصبحت مدمنة. كتبت بياف في مذكراتها: " لقد عشت، لمدة أربع سنوات كاملة، كحيوان أو كامرأة مجنونة: لم يكن هناك شيء موجود بالنسبة لي عدا تلك اللحظة التي كنت أتلقى بها الحقنة لأشعر في النهاية بذلك التأثير المريح للعقار". وقد وصفت كيف كانت في الحالات الاضطرارية تقوم بحقن نفسها من خلال التنورة أو الجوارب، في الدقائق التي تسبق صعودها إلى خشبة المسرح. وفي المرة التي قدمت بها عرضها بلا مورفين حصلت كارثة، وقام الجمهور بالتعبير عن امتعاضه بأصوات مستنكرة وهي على الخشبة.
بدأت بياف كذلك بتعاطي الكحول بإفراط لتخفيف الألم. وقد صعقت الجمهور في كازينو "رويال" عندما راحت تتمايل على المنصة وتغني بشكل مبهم ومتقطع أغنية بالكاد كانت تتذكرها. انقطع أصدقاؤها عن الشرب أمامها، وراحوا يخفون عنها زجاجات الكحول التي تجلبها، ولكن بلا فائدة. وكما تتذكر تقول: "خلال تلك الأوقات، كانت تسكن في داخلي رغبة لا فكاك منها بتدمير نفسي. لا شيء كان بإمكانه ردعي. هذه الأزمات كانت تدوم لمدة شهرين أو ثلاثة. وعندما أصل إلى قاع الهاوية، وعندما يعتقد الجميع أنني قد انتهيت، كنت أجد فجأة في نفسي الإرادة لصعود المنحدر ثانية. لكنني سرعان ما كنت أعود للإنحدار ثانية حتى أصبحت مجنونةً عملياً". وأصبحت تُشاهَد بعد فترة وجيزة جوالة في حانات باريس، تلتقط الرجال الغرباء ليلطّفوا من وحدتها. لقد كانت تلك المرحلة تمثل ذلك الصدى الحزين والمذهل لحياة أمها.
عام 1952، استقرت حالتها جزئياً عندما تزوجت من كاتب الأغاني والمؤدي جاك بيل. كان بيل كحولياً كذلك، ولم يفعل شيئاً لثنيها عن الشراب. كان كلاً منهما يمثل محرضاً للآخر على الشرب الذي كان ما إن يبدأ حتى يستمر لعدة أيام متتالية. ومع أنه لم يكن يحبها فقد منحها العلاقة الأكثر استقراراً التي عرفتها في حياتها. لكنها أثبتت مرة أخرى عدم قدرتها على الإخلاص، وطلّقته بعد سنوات قليلة.
التقت بياف زوجها الأخير، ثيو لامبوكاس، عام 1962، كانت في السابعة والأربعين من عمرها فيما كان هو في السابعة والعشرين. كان لامبوكا ضعيف الموهبة، لكنه أراد أن يصبح مغنياً، ورأى في إيديث تذكرة للعبور إلى عالم الاستعراض. ومع أنها كانت في تلك الفترة في حالة صحية سيئة، إلا أنها فعلت ما بوسعها لجعل لامبوكا مغنياً حاضراً في الساحة الفنية، فقامت بتقديمه إلى الصحافة، وألّفت عدة أغنيات من أجله. وقد صعقا فرنسا بأسرها بزواجهما الذي دام أقل من سنة منذ تعارفهما. وبدا أن والديّ لامبوكا هما الوحيدان في كل أرجاء البلاد اللذان لم يكونا منزعجين من هذا الزواج. قام ثيو بأخذها إلى منزل عائلته، حيث العائلة بأسرها رحبت بها بكرم شديد. وكانت إيديث مستاءة لدرجة أنها انفجرت بالبكاء.
في بداية العام 1963، سجلت إيديث أغنيتها الأخيرة ""رجُل برلين" L homme de Berlin، وبعدها بفترة وجيزة أخذ لامبوكا زوجته المريضة إلى منتجع كوت دازور آملا بأن تستعيد عافيتها. أصدقائها القدامى مثل ريمون أسو وجان كوكتو أحسا باقتراب النهاية، فقاما بزيارتها للمرة الأخيرة. طلبت منهما إيديث أن يصلّيا للقديسة ريتا، القديسة شفيعة القضايا الخاسرة. ثم توفيت بعد الظهر في العاشر من تشرين الأول لعام 1963.
بعد سنوات من رحيلها، وفي احتفال شعبي كبير، قام موريس شوفالييه بإزاحة الستار عن اللوح 115 المنصوب في جادة بيلفيل في باريس، مخلداً ذكرى ذلك المكان الذي لم تولد فيه إيديث بياف. لقد تم الحفاظ على الأسطورة، كما هي.

صناعة السينما في السعودية: حلم بجلب هوليود إلى جدة


حتى عهد قريب كانت صناعة السينما في السعودية ما تزال مسألة شبه محظورة من الناحية الاجتماعية, وكانت متابعة الأفلام السينمائية مقتصرة على ما يصل إلى محلات بيع أشرطة الفيديو من أفلام عربية وغربية, أما صالات العرض فما زالت حتى اليوم غير موجودة. لكن الانفتاح الإعلامي والمعلوماتي الذي فرضته في السنوات الأخيرة أدوات الاتصال الجديدة عبر الفضاء التلفزيوني والاتصال الشبكي أدى بطبيعة الحال إلى انقلاب جذري في النظرة الاجتماعية لكثير من المفاهيم ولا سيما لدى الأجيال الجديدة من السعوديين. الأمر الذي انعكس بدوره على السينما وفن صناعة الأفلام الذي بدأ في السعودية منذ سنوات قليلة على يدي هيفاء منصور, أول صانعي الأفلام السعوديين, والتي قامت بإنتاج فلم قصير من سبع دقائق بعنوان (الذي).
هكذا بدأت حمى هذه الصناعة بالانتشار على أيدي مجموعة من الشباب السعوديين المغامرين الذين ساروا خلف مخيلاتهم ومواهبهم لإنتاج أفلام كانت تكاليفها المادية غالبا على حسابهم الشخصي, وهي في مجملها جهود فردية ومشتتة لا تستظل بأي مؤسسة أو هيئة جامعة تدعم هذه التجارب هناك.
هذا الصيف كان شاهدا على ولادة ثلاثة أفلام جديدة أنتجت وأخرجت ومثلت في السعودية وهي (تشبث به) و(السعوديون في أمريكا) و(القرية المنسية). كما أقيم مهرجان السينما في جدة في منتصف يوليو.
بالنسبة لفيلم (تشبث به) الذي تم عرضه في جدة هذا الصيف, فإن إيجاد ميزانية للعمل لم يشكل عائقا أمام هذا الفيلم القصير لمخرجه محمد أنغي مكي ذي التسعة عشر عاما من العمر, الطالب في كلية إدارة الأعمال بجامعة الملك عبد العزيز. قال مكي إنه على الرغم من أن السعودية لا تدعم صناعة الأفلام, فإن الناس ما زالوا يطاردون أحلامهم عبر التشجيع المتبادل فيما بينهم, وإن باستطاعة فريق العمل لو وجد الدعم اللازم أن يجلب هوليود إلى جدة.
وقد بين أنه فكر بشكل أساسي بصناعة الفيلم وناقش الفكرة مع أصدقائه, الذين شاركوه في كتابة مخطوط الفيلم والتعديلات, واعتمدوا على أنفسهم وعلى الأدوات المتوفرة لديهم ليحولوا حلمهم إلى حقيقة. وقد واصلوا جمع الأفكار والإيمان بها حتى جاء الوقت ليحولوا أفكارهم إلى عمل إبداعي.
الفيلم باللغة الانجليزية وهو يتحدث عن أربعة أصدقاء, لكل واحد منهم حلم ليصبح شيئا مختلفا, وهي على التوالي, رجل أعمال, ولاعب كرة سلة, ونجم روك, ومغني راب. ويظل كل واحد منهم متشبثا بحلمه على الرغم مما يمرون به من ظروف.
تم إكمال فيلم (تشبث به) خلال شهرين. وقد عانوا من بعض الصعوبات في الصوت نظرا لضعف ميزانية الفيلم, لكنهم تجاوزوا هذه المسألة بكتابة الحوار أسفل الشاشة بالانجليزية. كما استأجروا ميكروفونا كان يكلفهم ثلاثين ريالا سعوديا في اليوم, واستخدموا كاميرا فيديو مستعملة منحت لهم. وتعرضوا مرة لإساءة المعاملة أثناء التصوير أمام منزل أحد الأشخاص, لكنهم تغلبوا على هذا بإيجاد مكان آخر.
يقول مكي: كان الناس ينظرون إلينا دون أن يبدو عليهم الاهتمام بالأمر وكأنهم متعودون على هذا, وهذه مسألة جيدة. وعندما يكون لدى أحدنا امتحانا أو اجتماعا عائليا فقد كنا نرجئ التصوير, وهذا ما جعل الفيلم يستغرق شهرين لإنهائه.
أما فيلم (القرية المنسية) لمخرجه عبد الله أبو طالب فهو مشروع يمثل شكلا جديدا في الأفلام السعودية المنتجة, إنه فلم رعب. ويقول أبو طالب عن هذا الفيلم: منذ أن كنا صغارا, ونحن نشاهد أفلام رعب رائعة باللغة الانجليزية قادمة إلينا من الغرب. الآن جاء دورنا لنفعل ذات الشيء. لم يكن في البداية مقبولا جدا لفلم رعب أن يكون باللغة العربية. ولذا ومن أجل كسر الحواجز بين الثقافات, فقد قمنا بتضمين ممثلين أجانب من فرنسا وكندا.
وقد بين أن الفيلم هو فيلم سعودي بفكرة جديدة ترتكز على رواية لطارق الدخيل. وقال إن القصة تتحدث عن مجموعتين من الأشخاص, الأولى يشكلها سعوديون, والثانية أجانب, حيث تتيه كلتا المجموعتين في الصحراء. تلتقي المجموعتان لاحقا في قرية منسية ومتصحرة, حيث تصبح معتقدات الأشخاص الغيبية وخرافاتهم الموروثة هي موضوع هذا الفلم الذي يمتد لساعة وأربعين دقيقة.
هذا الفيلم الذي اكتمل بعد عشرة أشهر من العمل, كلف ثلاثة ملايين ونصف مليون ريال سعودي, وقد تم تمويله من شركة ميديا آرت, وتم تصويره في خليص, وهي مدينة واقعة في غرب المملكة السعودية.
وبحسب المخرج, فقد تم اختيار خليص بدقة وحرص ذلك لأن لها ملامح الماضي. ويقول إن الوقت قد انقضى في تجهيز المنطقة لجعلها سهلة لتصوير فيلم هناك. وإن المكان ناء ومنعزل وتعوزه التسهيلات, الأمر الذي كان يجبرنا على الذهاب والعودة كل عدة أيام إلى مدينة مجاورة. وبالطبع فإن تصوير مشاهد مخيفة كان أمرا ناجحا لأن المكان مرعب أصلا والخوف كان يأتي بشكل طبيعي وعفوي. هذا ما قاله المخرج مازحا. طاقم الممثلين كان أيضا مثيرا للإهتمام, فقد تم تلقي حوالي 88 طلبا للتمثيل في الفلم, وأغلب المتقدمين كانوا قد شاركوا سابقا في تمثيل الإعلانات أو في عرض مسرحي أو درامي. الفيلم سيظهر قريبا على عدة قنوات تلفزيونية كما سيباع في الأسواق. وقد تم تقديم عرضه الأول في القاهرة في الواحد والعشرين من آب الفائت.
فيلم (السعوديون في أمريكا) هو فيلم وثائقي للمخرج فهمي فرحات (25 سنة) ويبلغ طوله ساعة كاملة. تم تمويل هذا الوثائقي من قبل زهرة للتصوير, وقد كلف عشرة آلاف ريال سعودي.
يقول فرحات عن الفيلم إن الغرباء دائما ما يسألون السعوديين عن أرائهم في أحداث الحادي عشر من سبتمبر, وعن الإسلام, وعن تقاليدهم وثقافتهم. ولهذا فقد فكرت في تقديم شيء ما يوضح لهم بعض الأشياء.
منتج الفيلم أحمد زهرة نصحه بأن يدع الطلاب يعبروا عن مشاعرهم, الأمر الذي يجعل الرسالة نفاذة إلى القلوب ومقنعة في آن. وهكذا ابتدأ المشروع واستغرق منه سنتين كاملتين لإنهائه. يقول فرحات إن أوقاتا طويلة لم يكن يرى خلالها الشمس بسبب مكوثه لإجراء التعديلات والعمل على المشاهد.
القليل فقط من السعوديين وخصوصا النساء, أرادوا أن يساهموا في هذا الفيلم الوثائقي, لكن المنتج واجه بالمقابل الكثير من الأشخاص الذين لم يرغبوا في ذلك, إنما لم يكن محبطا من هؤلاء الذين رفضوا, وقال أنه يتفهم حقيقة أن الناس غير متعودين على التعبير عن أنفسهم. وقال أنهم يفضلون أن يحتفظوا بكل شيء في دواخلهم, لكن شيئا ما تم فتحه الآن. وبالإضافة إلى ابتهاجه بإنتاج الفيلم فقد بين زهرة أنه كان يعاني من رهاب (فوبيا) الركوب في الطائرات, ولكنه بعد تصوير هذا الفيلم في طائرة بمحرك واحد, فإنه قد تجاوز الأمر ولم يعد مخيفا بالنسبة له.
فرحات هو واحد من السعوديين الكثيرين الذين اهتموا بالسينما منذ الطفولة لكنه كان خائفا من المضي قدما في حلمه بسبب الطريقة التي ينظر بها المجتمع إلى السينما. لكن والده آمن بمقدراته ونصحه بمتابعة الحلم. والآن بعد أن أتم دراسة السينما وأخرج عدة أفلام وثائقية, فإنه يريد العودة إلى السعودية للعمل في شركات للإعلان وتأسيس صناعة الأفلام.
يقول فرحات: من المبكر جدا بالنسبة لي أن أفتتح شركتي الخاصة. هناك نزوع عام الآن إلى ذلك لكن الأمر لن يكون مفيدا بكثرة المتنافسين, علينا أن نعمل مع بعضنا لنصبح أفضل. كما نوه إلى أن بعض الأفلام السعودية الحالية لم تنجح بسبب اعتمادها بكثرة على الوجوه الجديدة. ولو أنهم استخدموا نجوما سعوديين مثل ناصر القصبي وعبدالله السدحان لكانوا نجحوا.
ويقول فرحات إنه أراد أن يشارك في مهرجان السينما في جدة في منتصف يوليو, لكنه لم يسمع بالأمر إلا بعد فوات الأوان. سيكون العرض الأول لفيلم (السعوديون في أمريكا) في مؤسسة السينما الأمريكية.
ـــــــــــــــــــــــــــــ


ترجمة: تمام التلاوي عن Arab News - نشرت في جريدة أوان الكويتية


إذا أردنا المزيد من القراء للشعر فلنعطِ الجمهور ما يريده


كريستينا باترسون*
ترجمة: تمام تلاوي


"الشعر هو حديقة الحيوان التي تحفظ الشياطين والملائكة على حد سواء."
الشاعر الاسترالي ليس ماري




من المسلم به أن قوة التأثير تولد الإدهاش والنشوة اللتين تحيطان بكامل عملية كتابة وقراءة الشعر. من أجل هذا نفضل شعراءنا اليوم أمواتاً, إننا لا نريد أن نخدع كما لا نريد أن نشعر بأننا أغبياء.
قبل عشرة سنوات, وفي محاولة منا لمواجهة رهابنا الشعري, قام الجيل الجديد من الشعراء بإسقاط عشرين شاعراً كبيراً من منزلة (الشعراء الأفضل) وباعوهم في حزمة واحدة كبضاعة رخيصة.
فجأة, أصبح الشعراء في كل مكان: على الراديو, وعلى التلفزيون, وتزاحمت صورهم على بناطيل باول سميث وجاكيتات بولو نيكس, وفي الملصقات الرائجة. الشاعر دون باتيرسون الفائز بجائزة "وايت بريد" كتب في المجلة الشعرية الرائدة بويتري ريفيو "إنه يعتقد أنه أصبح يبدو كنقطة التصالب بين ماكس وول وصناديق بنلاينر الممتلئة بقناديل البحر". وقد ظهر الشعر كموجة جديدة من الروك أند رول. لكن مبيعات كتب الشعر لم تكن بالطبع متماشية مع صعود نجم الشعر في هذا الضجيج الإعلامي.
مع هذا فإن ما تم تحقيقه هو تسليط الضوء على عدد من الشعراء فائقي الموهبة الذين تحملوا في هذه الحالة عناء التحول السريع من غرباء أو تابعين صغار إلى أعضاء لهم ثقلهم في المؤسسة الشعرية.
حصة جاكيتات الجلدية وقصات الشعر ذات النتوءات لم تكن بالضرورة متماشية مع الانجذاب الجماهيري. سيمون أرميتاج, الذي يعتبر في قمة الهرم بين شعراء إنكلترا المعروفين وواحد من الشعراء المعاصرين القلائل الذين تباع كتبهم بكميات مهمة, يعتبر المثال الأكثر إتاحة في هذا المجال. الأكثر تحدياً وأهمية هو باتيرسون, لكنه الشاعر الشاب الوحيد الذي فعلها في قائمة الشعراء العشرة المتربعين على القمة في تصنيف "ووترستون".
بإمكان الشعر كأي شيء آخر في الحياة أن يكون صعباً أو سهلاً. سيئاً أو جيداً, جميلاً أو رديئاً. وهو عندما يكون في ذروته الأفضل, يصبح من الصعب أن نتغلب على تلك الكثافة الكهربائية الموقفة للقلب الناجمة عن القصيدة المصنوعة برهافة. الشاعر بيتر بورتر, المرشح الحالي لمنصب رئاسة قسم الشعر في جامعة أوكسفورد, وصف الشعر قائلاً: "إنه اللغة التي تضاء بالحياة, أو هو الحياة التي تضاء باللغة". إننا نستطيع بالطبع العيش بدون الشعر, ولا نستطيع العيش بدون الخبز. لكن الأفضل أن نجمع بين الخبز والورود.

*كرستين باترسون الآن هي المحرر الأدبي الوكيل لصحيفة الاندبندنت والرئيس السابق لجمعية الشعر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة الغاوون

الأوديسة تؤرخ سقوط طروادة

ستيف كونر
ترجمة: تمام تلاوي









لسنوات عديدة أثير الجدل حول ملحمة هومير، واليوم استطاع بحث يعتمد على التفاصيل الفلكيه الواردة في قصة الأوديسة أن يحدد التاريخ الدقيق للحدث الذي يمثل ذروتها الدرامية.
تعتبر الأوديسة واحدة من أعظم أعمال الأدب الغربي العتيق, وقد كتبت في القرن الثامن قبل الميلاد أي بعد سقوط طروادة بأربعة قرون.
أجيال من الباحثين الكلاسكيين بذلوا مجهودهم في دراسة الخطوط العديدة لملحمة هومير التي تصف رحلة العودة الطويلة لبطل الأوديسة إلى وطنه في جزيرة إيثاكا. واليوم وجد اثنان من الباحثين دليلا يدعم الفكرة القائلة: إن أحد الخطوط الدرامية في الكتاب العشرين للقصيدة يعود إلى كسوف الشمس الكلي الذي حصل في 16 إبريل عام 1178 ق.م, أي في ذلك اليوم الذي عاد فيه أوديسوس إلى موطنه ليقتل خُطّاب زوجته. وإذا كان هذا صحيحا فإنه سيؤرخ سقوط طروادة بشكل دقيق, أي في العام 1188 ق.م. فالمعروف أن رحلة اوديسوس قد استغرقت عشر سنوات ليصل إلى إيثاكا "بعد السنة العاشرة لحرب طروادة". خلال هذا الوقت نما ابنه الصغير كليماخوس حتى أصبح شابا, وذلك في كنف زوجته الوفية بنيلوب, التي ضُيِّق الخناق عليها من قبل خُطّاب عنيدين استماتوا في طلب يدها.
الأوديسة هي قصة رحلة طويلة وعظيمة تتضمن حكاية أوديسوس مع الحوريات الجميلات ومع الربة كليبسو التي استعبدته لمدة سبع سنوات كـعشيـق, ومع الأرباب المساعدة كأثينا وأرباب الانتقام مثل بوسيدون.

أوديسوس هرب أخيراً من كليبسو ونجا على حطام سفينه وحيدا بعد أن كان قد غرق كل زملائه. ثم التقى مع فيشنز البحار الموهوب الذي صاحب البطل وسلمه بأمان إلى إيثاكا, فلبس ثياب شحاذ ودخل متخفياً ليرى كيف جرت الأمور في موطنه بعد غيابه.
في هذه الأثناء التي تمثل الفترة الأخيرة من الأوديسة أشار هومير إلى كسوف الشمس الكلي, وأورد العبارة (المفتاح) التي جاءت في خِطابٍ على لسان الشاهد ثيوكليمانوس الذي تنبأ بموت الشبان العنيدين الذين طلبوا يد بنيلوب بينما كان أوديسوس خارج إيثاكا: "إنها نهاية العالم/ ها هي الشمس قد طمست في السماء/ وها هو الظلام المنحوس قد داهم العالم".
إن فكرة أن الأوديسة تشير إلى كسوف الشمس الكلي حيث يحجب القمر الشمس كلياً ليست بجديدة, وكانت قد عرضت من قبل باحثين قدماء. لكن في عام 1920 فقط أصبح علماء الفلك قادرين على حساب اليوم الذي يحدث به مثل هذا الكسوف فوق اليونان, وإن الوقت الذي يمكن فقط أن يحدث فيه هو 16 إبريل 1178 ق.م.
على الرغم من ذلك فإن قليلاً من الناس فقط اقتنعوا بأن هذا المقطع يشير إلى كسوف الشمس الكلي الأسطوري المذكور في الأوديسة, ولا يهم كونه حقيقياً وإنه ممكن أن يكون مجرد مجاز شعري.
ولكن اثنين من الفلكين المعاصرين اعتقدا بأن لديهما الدليل الدامغ الذي يدعم كسوف 16 إبريل عن طريق مقاطع أخرى في القصيدة تشير إلى أربع حوادث فلكية من المعروف أنها تحدث بشكل مستقل الواحدة عن الأخرى.
وبدلا من أن يحصروا نظرهم في حدوث الكسوف الشمسي في التاريخ كما فعل بقية الفلكيين, فقد قامو إضافة إلى ذلك بتفحص توقيت كل من اكتمال القمر والظهور المتزامن لاثنين من الأبراج الفلكية في سماء المساء, وبظهور كل من كوكبي المريخ والزهرة.
كل هذه الظواهر قد أشير إليها في الأوديسة, مما أعطى كلا من: قسطنطينو باكوزيس المراقب الفلكي في مركز بلاتا الارجنتيني والبروفيسور مارسيلو ماجناسكو في جامعة روكي فيلر في نيويورك, سبلاً أخرى لرصد التاريخ التي يفترض أن يكون به أوديسوس قد عاد الى موطنه في إيثاكا لقتل خُطّاب زوجته. فعلى سبيل المثال: ستة أيام قبل ذبح الخطاب كتب هومير أن "أوديسوس عاد مع بزوغ النجم", الذي يشير به إلى كوكب الزهرة والذي يكون مرئيا وقت شروق الشمس. كما أن أوديسوس أقلع بمركبة إلى إيثاكا قبل تسعة وعشرين يوما ونصف حيث يمكن أن يرى برجا بوتز والثور في وقت الشفق, وهما البرجان اللذان كانا يستعملان بواسطة الإغريقيين القدامى في الإبحار.
اكتشف العالمان في المخطوط بأن اليوم الذي يسبق ذبح الخطيب يكون فيه القمر مكتملا, وهو الشيء الضروري لحصول الكسوف الكلي. كما أنه قبل هذا التاريخ بثلاثة وثلاثين يوما افترض هومير أن المريخ, الذي عبر عنه بأنه الإله هرمز, كان بازغا في الفجر وقريبا من النهاية الغربية لمساره.
لقد حسبا اليوم الذي حدثت فيه هذه الظواهر الأربعة من خلال المرجعيات التي أشير اليها في الأوديسة وقارناها مع النماذج التي حُصِل عليها منذ 135 سنة من البيانات الفلكية أي ما يعادل تقريبا 5000 يوم. وفي النتيجة وجدا أن تاريخا واحدا فقط يمكن له أن يكون هو اليوم المصيري.. لقد كان نفسه: 16 إبريل 1178 ق.م والذي عرف به حصول الكسوف الشمسي الكلي.
"لا نستطيع القول بالتأكيد أن هذه الاحداث الموصوفة في الأوديسة قد وقعت فعلا بالطبع, لكن ما نريده بالضبط هو أن نجعل الناس يعودون الى الملحمة ويلقوا عليها نظرة مختلفة" هكذا قال ماغناسكو, وتابع: "إذا افترضنا فعلاً أنه كان هناك أوديسوس, والخُطاب الذين تم ذبحهم, وبأن أوديسوس استغرق عشر سنوات كي يعود. فنعم, في هذه الحاله يكون سقوط طروادة قد حصل قبل عشر سنوات من موت الخطاب أي تماما في عام 1188 ق.م. وإن التأريخ الحالي للطبقة المتلفة من طروادة السابعة هي حوالي 1090-+ بعض السنوات". (من المعروف في علم الأثار التأريخي أن طروادة قد دمرت سبع مرات عبر مئات السنين, وكل مرة تمثل طبقة في قشرة الأرض –المترجم-).
إن نقطة الضعف في التحليل التي يعترف بها ماغناسكو تكمن في فكرة الربط بين ظهور الكواكب بالأرباب, والتي هي عبارة عن ابتكار بابلي يعود الى حوالي الألف قبل الميلاد, ولا يوجد دليل على أن هذه الفكرة قد وصلت الى اليونان في وقت هومير, لكنه ختم محاضرته: "قد يقول المرء ان تأويلنا للظاهرة يوسعها, لكن عندما تعود الى النص فلابد أن تندهش, وبالرغم من وجود براهين تاريخية تقول أن ما نفكر به هو مجرد ترهات, إلا أننا إذا استطعنا دفع ولو عدد قليل من الناس لقراءة الأوديسة بشكل مختلف, وإلقاء نظرة تأملية حول ما إذا كان ثمة تاريخ حقيقي بها, فإننا سنشعر بسعادة عظيمة".

ــــــــــ

تمام تلاوي - جريدة بلدنا السورية

عشرة سيناريوهات مذهلة لانتحار الأدباء

تمام تلاوي


"كل هؤلاء الناس.. لم أكن أعتقد أن الموت قد أغوى كل هؤلاء الناس"
ت. س. إليوت.. الأرض الخراب



حتى في موتهم مارس المبدعون إبداعهم, لم يرضهم أن يكون موتهم أقل إثارة من حياتهم, حتى في تلك اللحظة, حين تصل المشاعر الإنسانية إلى درجة الصفر, وحين لا تستطيع غريزة الحياة بما تحمله من شهواتها أن تتغلب على إغواء الموت. ربما يعتبر الرصاص أو السم وحتى السيوف, من الوسائل التقليدية لقتل النفس, لكن هؤلاء الكتاب المبدعون لم يرتضوا استعمالها دون نسج ذلك السيناريو المدهش للطرق التي وضعوا بها حداً لحياتهم. البعض اخترع وسائل لم تخطر على البال قط, كالقفز في بركان مثلاً, لكن الآخرين الذين لم تتوفر لهم سوى الوسائل التقليدية أرادوا أن يستخدموها بطرق غير تقليدية. ها هو "غاري لاتشمان", الكاتب المتفرغ وأحد الأعضاء المؤسسين لجماعة "روك غروب بلوندي", يفصل لنا عشرة من وسائل الموت المذهلة هذه, التي سنسردها هنا باختصار عن كتابه الجديد "رسائل الموتى" الصادر مؤخرا عن دار "ديدالوس" في شباط المنصرم (2008).



1- إيمبيدوكلس: القفز في بركان
تقول الأسطورة أن إيمبيدوكلس, أحد أقدم الفلاسفة الإغريق, قتل نفسه عن طريق القفز في بركان إم تي إتنا في صقلية دون علم أحد. وكانت فكرته أن هذه البركان سيطمس جثته ليظن الناس أنه قد تحول إلى إله خالد وأنه قد صعد إلى السماء. مع هذا تم اكتشاف هذه الأحبولة, إذ لم يتمكن بركان إتنا من مجاراته في خطته بسبب صندله الذهبي.

2- توماس تشاتيرتون: الدواء الذي صار سمّاً
"الفتى الخارق".. هكذا دعاه وردزورث, انتحر في السابعة عشرة من عمره بعد هزيمته في معركته ضد اللامبالاة التي واجهها في مدينة لندن ذات الطابع المحافظ, إذ كان يأمل في قهرها بعد تركه لمدينه بريستول ذات الصبغة القروية التجارية. فقد تم تجاهله أو رفضه من قبل أولئك الذين كان عليهم أن يقدروا موهبته. وتُرِك تشاتيرتون ليتضور جوعا في عليته القديمة, متعففا عن استجداء أو حتى قبول المساعدة عندما كانت تقدم له. لقد كافح ببسالة وجرأة, وهو يكتب قصائده ومقالاته وقصصه, وكان لا يرسلها إلا للمحررين, لتضيع تالياً في زحمة الكتابات التجارية وفي فيض مطبوعات شارع "جراب" اللندني الذي يعج بالكتاب والكتابات الضعيفة التجارية, وأحيانا, وهذا أسوأ, لتنشر بلا أجر مقابل. أخيراً, لم يعد قدره محتملاً, وقرر وضع نهاية لكل هذا. مزق أشعاره الأخيرة نتفاً نتفاً وهو في خضم سكرات موته, مستسلماً للزرنيخ الذي تناوله في ذلك الليل الرهيب للثالث والعشرين من شهر آب عام 1770 في شارع بروك في هالبورن. مع ذلك كان ثمة احتمال أن يكون موته نتيجة لجرعة عرضية زائدة من الزرنيخ الذي كان يتناوله لعلاج حالة السفلس.

3- هينيريش فون كلايست: رصاصة له وأخرى لعشيقته
في الحادي والعشرين من نوفمبر لعام 1811, وفي هضبة عشبية تطل على بحيرة "وانسي" على مشارف برلين, قام الروائي والكاتب المسرحي هينيريش فون كلايست بزرع رصاصة في قلب رفيقته هينريتي فوغل, المرأة ذات الحادي والثلاثين عاما والحاملة لسرطان غير قابل للعلاج, ثم وضع ماسورة المسدس في فمه وأطلق النار.

4- جيرارد دو نيرفال: الشنق برباط جورب الملكة
كان دو نيرفال تلميذا في علم البواطن والسحر, كما اشتهر بقدرته على توجيه السرطان البحري للسير عبر بالاس رويال في باريس. وبعد إقامته مرتين في مصح عقلي وبعد عدة نوبات من الجنون لحقت به, قام أخيراً بشنق نفسه برباط قماشي قذر كان يحمله معه منذ سنوات, وكان يؤكد لأصدقائه دائماً أن هذا الرباط هو رباط جوارب ملكة "شيبا".


5- جاك لندن: جرعة مفرطة من المورفين
بالإضافة لإدمانه على المورفين والأفيون, كان "لندن" سكيرا ذائع الصيت, وكان واحدا من أوائل الكتاب الكبار الذين يجاهرون على الملأ بكحوليتهم المفرطة. وبالنظر إلى ولعه في الإسراف بالشراب, فإنه من السهل تقدير رغبته اللاواعية في الموت, أو الرغبة في اجتياز الحدود لرغباته النفسية. لندن سمح لنفسه مرة في إحدى الحفلات بالشرب وتعاطي المورفين حتى وافاه الموت. في مناسبة سابقة عندما تواجد صدفة على خليج سان فرانسيسكو قال عنها: "لقد اجتاحتني فجأة رغبة عارمة بإسلام نفسي للمد البحري", وفعلا حصل هذا, وانجرف "لندن" لساعات هناك بنية أن يدع نفسه يغرق, لكنه صحا في النهاية, وقام صياد سمك بإنقاذه.

6- فرجينيا وولف: الغرق
يعتبر هجرانها لليونارد وولف واحدا من أصعب حالات الوداع المحمطة للقلوب: "لقد وهبتَني أعظم سعادة يمكن أن يحصل عليها المرء" كما أخبرته مرة, "لقد كنتَ كل ما يمكن أن يكونه أحدهم في شتى حالاته, لم أعتقد أنه بإمكان اثنين أن يكونا أكثر سعادة مما كنا عليه, حتى جاء هذا الداء الرهيب...". في الثامن والعشرين من آذار 1941, وبعد أن ملأت جيوبها بالحصى, قامت فرجينيا وولف بالسير باتجاه نهر أوز القريب من مسكنها –دير الرهبان- الواقع في قرية رودميل في سوسكس, ثم ألقت بنفسها في النهر.

7- ايرنست هيمنغواي: الرصاص والكهرباء
كان هيمنغواي كاتبا مولعا بالسؤال حول لغز الانتحار, هذا السؤال الذي حصل على إجابته في آخر الأمر عن طريق تفجير دماغه برصاصة في الرأس. على الرغم من الاعتقاد أن الصدمة الكهربائية العلاجية التي خضع لها أثناء جلسات علاجه من مرض الاكتئاب تاركة ذاكرته وقدرته على الكتابة في حالة عجز, كانت السبب الوجيه الذي دفعه في النهاية من تلك الحافة.



8- سيلفيا بلاث: فرن الغاز
في ليلة الأحد الحادي عشر من شهر شباط 1963, وبعد أن تركت بلاث لأطفالها أكواب الحليب وقطع الخبز الخاصة بفطورهم بالرغم من كونهم صغار جداً على أن يتناولوه بمفردهم, قامت سيلفيا بفتح نافذة غرفتهم في شقتها الواقعة في 23 طريق فيتزوري, في منطقة بريمروز هيل شمال لندن. ثم أغلقت على نفسها باب المطبخ وحشت الفراغ تحت الباب بقطع قماشية وأشرطة لاصقة, بعد أن تركت ملاحظة في عربة أطفالها ليتصلوا بطبيبها, مكتوبة على غطاء الوسادة. فتحت بلاث صمام الغاز وأدخلت رأسها عميقا داخل الفرن.

9- آن سكستون: الاشتعال بالبنزين
مطلقة, تعيش وحيدة, مغتربة عن أصدقائها وعائلتها, ومجردة من كل شيء عدا مأساتها, فيما وضع إدمانها على الكحول نهاية لبريق إبداعها. إذن لم يكن انتحارها أمرا غير متوقع, لكنه كان في الواقع مفاجئاً. لم يكن ثمة أي رسالة متروكة, ولا ملاحظة. بعد غداءها الأخير مع صديقها الذي رافقها في الماضي طويلا, ماكسين كومين, حيث بدت طبيعية تماما, على الأقل بالنسبة لها, صعدت آن إلى سيارتها في الكراج وابتدأت بالاشتعال, فيما كانت موسيقى الراديو تواصل دويها. "هذا هو السلوك المنسجم مع الأشخاص الوحيدين والكحوليين فاقدي الأمل.." هكذا كتبت معالجتها النفسية إيريكا جونغ في صحيفة النيويورك تايمز في مقال يثني على آن سكستون ويذكر مآثرها, وكتبت أيضا: "لقد قتلت آن سكستون نفسها لأنه من المؤلم جدا العيش في هذا العالم بدون الإحساس بالخدر, إنها لم تعد قادرة على الإحساس بالخدر على الإطلاق".

10- يوكو ميشيما: هارا-كيري
في الخامس والعشرين من تشرين الثاني 1970 وأمام حشد من المشاهدين المأسورين بما يحصل, قام ميشيما بتأدية الهارا-كيري. فيما كانت ماساكاتسو موريتا –عشيقته وتلميذته- تحاول بدورها الهارا-كيري, وبعد عدة محاولات, فشلت في قطع رأس ميشيما كما اقتضت الخطة, تاركة جزءاً من الطقس دون إتمامه, وهو الجزء المسمى كيشاكونين, والهادف إلى التخليص من نزعات الموت المرافقة لعملية نزع الأحشاء من البطن. لكنهما تلقيا معا اللمسات الأخيرة للعملية بيديّ وسيف شخص ثالث يمثل عضوا في جماعة تاتينوكاي التابعة لميشيما (جماعة الدرع), وهي نوع من الجيوش الخاصة التي أمل ميشيما من خلالها أن تكون نموذجا إحيائياً لجناح اليمين الياباني, مستعيداً الأمجاد القديمة للساموراي.



ــــــــــــــــــــ
تمام التلاوي - جريدة بلدنا السورية

أودن يتنبّأ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر



تمام تلاوي



هذه هي القصيدة ذائعة الصيت التي ردّدها كل لسان أمريكي عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. هذه هي قصيدة ويستن هيو أودن التي تحدث بها عن أجواء الكارثة قبل حصولها بإثني وستين عاماً. هذه هي القصيدة التي ترجمت إلى كل اللغات الحية عدا العربية, رغم مرور أكثر من خمس سنوات على اشتهارها. ولست هنا بصدد العتب على المترجمين العرب, فأنا أحسب نفسي واحداً منهم, وأعرف أنهم قلة, وأن هنالك الكثير مما يجب ترجمته. لكن نقطة استغرابي الشديد جاءت من كون أودن واحداً ممن ترجم له الكثير, وتم تسليط الضوء عليه بقوة في الذكرى المؤية لولادته في العام المنصرم, ومن كون هذه القصيدة هي أكثر ما اشتهر من قصائده في الآونة الأخيرة, لدرجة حسبت معها أنه من المستحيل ألا تكون قد ترجمت إلى العربية حتى الآن. لكن نتائج بحثي في المصادر وفي الكتب وفي غوغل كانت جميعها خائبة, مع أن هنالك من تطرق إلى القصيدة في بعض المقالات, كما أن هنالك من نشر لها ترجمة مجتزئة وركيكة عام 2001 في إحدى الصحف. وها أنا على أية حال أقدم هنا اجتهادي الشخصي في هذا, آملا أن تكون هذه الترجمة هي الأقرب إلى الصواب اللغوي وإلى الجمالية الشعرية, دون أن أنكر بالطبع الصعوبة البالغة التي واجهتني مع لغة أودن وأساليبه التعبيرية.
ولد أودن في يورك عام 1907, وكان الأبرز ممن أطلق عليهم اسم "شعراء الثلاثينات" في بريطانيا, فهو الشاعر الأكثر شعبية والأكثر براعة وقدرة فنية في الشعر, وصاحب القصائد الخالدة. كان يمثل واحداً من المثقفين الشيوعيين البريطانيين, وهاجر إلى أمريكا وحصل على الجنسية الأمريكية, ويقال إن هجرته تلك لم تكن هجرة بقدر ما كانت هروباً, إثر الاشتباه به من قبل المخابرات البريطانية بمساعدة أحد الجواسيس السوفييت على الهرب من بريطانيا. هذه المسألة التي لم تكن معروفة البتة, والتي تم كشف النقاب عنها مؤخراً في وسائل الإعلام البريطانية. وقد قمت بنشر هذا الملف حديثاً في إحدى الصحف العربية. في سنوات حياته اللاحقة توزعت أوقاته بين نيويورك والنمسا حيث توفي في فيينا عام 1973.
العنوان الذي وضعه أودن لهذه القصيدة هو: "الأول من سبتمبر 1939", وهو يتحدث فيها عن الغضب والخوف ونفحة الموت البغيضة التي تنتهك ليل سبتمبر, يتحدث عن مفهوم الرب السيكوباتي, وعن أولئك الناس الذين يفعلون الشر لأنه مورس عليهم من قبل, يتحدث عن الديكتاتورية المقنعة بالديموقراطية, وعن وجه الإمبريالية الذي يحدق إلى نفسه خارج المرايا, يتحدث عن ناطحات السحاب العمياء التي تتلمس طريقها إلى السماء, وعن الوطن الأشبه بغابة مسكونة بالجن, عن القادة الأغبياء وعن الجوع والأكاذيب التي تملأ العالم, لكنه يتمنى في النهاية أمنية ملتبسة تتطابق في تفسيرها مع صورة الحدث المروع في سبتمبر, إنه يتمنى أن يصبح ذلك اللهب الأكيد المحاصر باليأس والإنكار.
صحيح أن أودن كتب قصيدته إبان الغزو الألماني لبولندا, لكن, هل هي مجرد مصادفة يا ترى أن تتألف هذه القصيدة من تسعة مقاطع؟ هل هي مصادفة أن يتألف كل مقطع من أحد عشر سطراً؟ لا أعلم حقاً, لكن ما أنا متأكد منه أن الكارثة التي غيرت وجه العالم, قد حدثت في الحادي عشر من الشهر التاسع. وما أعرفه أن هذه القصيدة يمكن قراءتها على أكثر من وجه, وبعدة مستويات دلالية, ومن مختلف وجهات النظر, التي منها ما يتطابق مع المفاهيم المعرفية للإنسان الأمريكي, ومنها ما يتطابق مع مفاهيم المتطرف الذي انصهر جسده في لهب "منهاتن", ومنها ما يتطابق مع ما بينهما من مفاهيم. لكن أودن بلا شك يتقاطع مع جميع الأطراف عندما يقول للجميع في القصيدة: "فلْيُحِبّ أحدُنا الآخرَ أو فلْيَمُتْ".
المهم في النهاية, برأيي الشخصي, أن هذه القصيدة تنتمي بشدة إلى الشعر الحقيقي الحيّ, وتتطابق بشدة مع رؤيا الشاعر الحقيقي, أودن, المكتظ بالأحاسيس الرهيفة, وباللغة الفارهة, والمشحون بالمخيلة الرائية, الحوامل التي رفعت هذياناته هذه, إلى مصاف النبوءات العظيمة.


الأول من سبتمبر 1939*



أجلسُ في إحدَى الحانَاتِ الرّخيصَةِ
في الشّارعِ الثاني والخمسين
مُرتبِكاً وخائِفاً
فيما الأماني الجميلةُ تلفظُ أنْفاسَها
في هذا العِقدِ الحقيرِ الكئيبِ من السنوات..
أمواجٌ من الغضبِ والخوفِ تغطّي الفرح
وتطغى بظُلمتِها على مساحاتِ الأرض
مُقلِقةً حياتَنا السريّةَ,
فيما نفحةُ الموتِ البغيضةِ
تنتهِكُ ليلَ سبتمبر.


بإمكانِ الدّارسِ المدقِّقِ
اكتشافُ الجريمةِ كلِّها
منذ "لوثر" حتى يومِنا هذا
ذاك الذي قادَ الثقافةَ نحو الجنون.
انظر ماذا حدثَ في "لِينز",
أيُّ صنيعةٍ يافعةٍ هائلةٍ
ذلك الربُّ السَيكوباتيّ:
نعلم أنا والناس
كل ما يتعلّمُه أطفالُ المدارس,
إنَّ أولئكَ الذين يُمارَسُ عليهِم الشرُّ
سيفعلونَ الشرَّ بالمقابل..


لقد عرَفَ "ثوسيديدز" المنفيُّ
كلَّ ما يمكنُ أنْ يقولَهُ
خِطابٌ ما عن الديموقراطية
عرَفَ ماذا يفعلُ الديكتاتوريون
أولئكَ العجائزُ حثالةُ الناسِ
الذين يتحدثون إلى قبرٍ باردٍ,
لقد حلَّلَ كلَّ هذا في كتابِهِ:
التنويرَ الذي سيق بعيداً إلى غيرِ رجعةٍ
الألمَ الذي أدمَنَّاه
الإخفاقَ وسوءَ التدبير:
كل هذا يجب أنْ نعانِيهِ مرّةً أخرى.


في هذا الهواءِ الحِياديِّ
حيثُ ناطحاتُ السحابِ العمياءُ تستخدمُ
كاملَ ارتفاعاتِها كي تنادي
بقوّةِ الرجالِ المتَّحِدِين,
وبكلِّ لغةٍ تتدفّقُ بعجرفتِها
وبازدحامِ الأعذار:
من الذي يستطيعُ العيشَ طويلاً
في حلمٍ سعيد!
وهما يحدّقانِ خارجَ المرايا:
وجهُ الإمبريالية
والخلَلُ العالميّ..


الوجوهُ على امتدادِ البارِ
ملتصِقَةٌ بأيّامِها العاديّةِ:
الأضواءُ يجبُ ألاّ تنْطفئ
الموسيقى يجبُ أنْ تبقى دائماً
إن كلَّ المعاهداتِ تتآمرُ
لجعلِ هذا المَعقِلَ مُتخَيَّلاً بأثاثِ الوطن
مخافةَ أنْ نرى أينَ نحن
-كما يجبُ أنْ نفعل-
نحنُ الضائعونَ في غابةٍ مسكونةٍ بالجِنِّ
نحنُ الأطفالُ الخائفونَ من الليل
الذينَ لم يكونوا يوماً سعداءَ أو بصحةٍ جيّدةٍ.


المقاتلونَ همُ القمامةُ المعرَّضَةُ للريح
والأشخاصُ المُهِمُّون يصرخون.
ألم يكنْ بسيطاً جداً كأمنياتِنا
ما كتَبَهُ "نيجينسكي" المجنونُ
حولَ "دياغيلف"
كان صحيحاً بالنسبةِ للقلوبِ الطبيعيّةِ
أنَّ الخلَلَ يتناسَلُ في عِظامِ
كلِّ رجُلٍ وكلِّ إمرأة
وأنَّ القبورَ لا يمكنُها أنْ تحتوِيه,
ما مِنْ عشقٍ كونيٍّ
ما لمْ يكُنْ عِشقاً وحيداً.


من الظلامِ المُحافظِ
إلى الحياةِ الأخلاقيَّةِ
يأتي قادَةُ التغييرِ البُلَهاء,
مُكرِّرِينَ عهودَهم الصباحيّةَ,
" سأبقى مخلصاً للزوجة,
سأركّزُ على عمَلي أكثر..",
هؤلاء الحكّامُ العاجزونَ يسهرون
ليستأنفوا لُعبَتَهم مُجبَرينَ عليها..
من يستطيع أن يحرّرَهم الآن,
من يستطيع إسماعَ الأصَمّ,
من يستطيع التحدّثَ إلى الغبيّ؟


كلُّ ما أملكه هو الصوت
لأفكِّكَ الكِذْبةَ المعقودَةَ,
الكِذبةَ الرومانطيقيّة
في عقلِ الرجُل الشهوانيّ في الشارع
وكِذبةَ السُّلْطة
وكِذبة الأبنيةِ وهي تتلمَّسُ طريقَها إلى السماء:
ليس ثمّةَ شيءٌ يماثلُ الدولةَ
وليس هنالك مِنْ كائنٍ يعيشُ وحيداً,
فالجوعُ لا يتركُ خياراً آخرَ
للمواطنِ أو لرجُلِ الشرطة,
فلْيُحِبّ أحدُنا الآخرَ أو فلْيَمُتْ.


الإقتتالُ تحتَ جنح الظلام
والأكاذيبُ الباعثةُ على الخَدَرِ في عالمِنَا هذا,
ما تزالُ تومضُ في كلِّ مكان.
فيما النِّقاطُ القويّةُ للضوء
التي تومِضُ حيثُ يكونُ العَدل
تُبدِّلُ رسَائِلَهُمْ:
ترى هل أقدِرُ أن أكونَ مثلَ هذهِ الرسائل
مكتُوباً بالشّهْوةِ والغُبَار
مُحاصَراً بذاتِ الإنكار
وبذاتِ اليأس,
إنّما,
مُشتَعِلاً بالّلهَبِ الأكِيد..

ــــــــــــــــ

*نُشِرتْ القصيدة سنة 1940.


نشرت في ملحق السفير الثقافي 18 نيسان 2008

أودن يساعد جاسوساً سوفييتياً على الهرب من بريطانيا




كاهال ميلمو
ترجمة: تمام تلاوي



ويستان هيو أودن واحد من الشعراء الأكثر شعبية في بريطانيا, فهو الشاعر الذي كتب أشعاراً خالدة بدءاً من المرثيات الجنائزية وحتى البريد الليلي, لكن ما ليس معروفاً عنه جيداً أنه قد لعب دوراً مشبوهاً وغير مرغوب به أثناء الحرب الباردة مع شخصيات بارزة من الجواسيس السوفييت.
ملفات سرية تظهر اليوم كيف أن هذا الكاتب الذي كان محبوباً ومكروهاً في آن معا خلال حياته من قبل المؤسستين الأدبية والسياسية, قد تم استجوابه بشكل كثيف حول اختفاء غاي بروغريس -أحد الأعضاء الخمسة في حلقة جواسيس كامبريدج- الشخص المشهور بخلاعته ومجونه والذي سرب أسراراً ومفاتيح عديدة إلى الاتحاد السوفييتي.
كانت وحدة المخابرات العسكرية البريطانية MI5 والإف بي آي قد أمرتا باستجواب هذا الشاعر, إثر معلومات عن أن بورغيس, الذي هرب من بريطانيا في أيار عام 1951 مع صديقه الديبلوماسي والعميل المزدوج دونالد ماكلين, كان قد حاول بإلحاح الاتصال بأودن عشية يوم هربه. ماكلين, الذي امتلك معلومات عن أبحاث القنبلة الذرية, وبورغيس استقلا زورقاً وعبرا به إلى فرنسا في الخامس والعشرين من أيار قبل أن يغادرا بشكل سري جوّاً إلى موسكو. كان قد تم الإلماح إليهما من قبل زميلهما جاسوس كامبريدج كيم فيلبي الذي كان يعمل لحساب المخابرات العسكرية البريطانية في واشنطن, وكاد أن يتم افتضاح أمرهما.
إختفاء الرجلين أدى إلى نشوء حالة من الذعر في أوساط الحكومة البريطانية والمرافق الأمنية, مولدا شرارة البحث عنهما عبر أوربا, إذ أصبح أودن واحداً من هؤلاء المشتبه بهم بمساعدة بورغيس, ربما, عن طريق إيوائه في منزله بإيطاليا الذي كان يقضي به أيام عطلاته. نُشرت هذه الملفات في الأرشيف الوطني في كيو غرب لندن, وأظهرت كيف قام موظفوا المخابرات العسكرية بالاشتباء بأودن عندما ناور بشكل متعمد مدعياً أنه لا يتذكر شيئا عن المكالمة التلفونية التي أجراها بورغيس معه.
وبعد استشارة الإف بي آي طلبت المخابرات العسكرية البريطانية من شعبة الأمن الإيطالية مراقبة منزل عطلاته في جزيرة إيشيا في باي نابلس وإعلانه كشخص مطلوب للاستجواب. وقد ازدادت شكوكهم حينما وصل أودن إلى فيلته هناك بعد ثلاثة أيام من اختفاء بورغيس. ربما كان لدى الشاعر أسبابه المقنعة كي يتجنب السلطات البريطانية. إذ كان قد اتهم بالخيانة عندما هاجر إلى الولايات المتحدة قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة مع شريكه في الأدب –وعشيقه أحيانا- كريستوفر إيشروود. كان أودن قد تعرف على بورغيس منذ ثلاثينات القرن العشرين وكانا يتقابلان بشكل مطرد بعدما أرسِل بورغيس كديبلوماسي إلى السفارة البريطانية في واشنطن عام 1947.
ملف المخابرات العسكرية البريطانية أظهر أن أودن كان يعتبر من قبل الهيئة الأمنية كواحد من عصبة المثقفين الشيوعيين البريطانيين كذلك, ولو أن ذلك ذو انعكاس سياسي ضئيل. في واحدة من مذكراتMI5 المعلنة عام 1938: "كان و.هـ. أودن موصوفا في رسالة إلى MI6 (وحدة المخابرات العسكرية البريطانية الخارجية) على أنه (شاعر, وفي بعض الأوقات شيوعي) وأن سيسل داي لويس مثقف شيوعي ذو مرتبة فكرية ونموذجية عالية, وأن هاري بوليت (زعيم الحزب الشيوعي في بريطانيا العظمى) ليس ذا قيمة حقيقية للحزب كما كان معتقداً.
بورغيس المعروف بإدمانه على الشراب كان مضطرباً بشدة خلال أحاديثه إلى أودن ولا سيما في اتصاله في العشرين من أيار, وفقا للملفات. أظهر الملف أن سبيندر أخبر البوليس أنه قد أوصل رسالة بورغيس إلى أودن. لكن أودن نفى بدوره معرفته بأي شيء حيال الاتصالات الهاتفية, الأمر الذي زاد من اشتباه وحدة الأمن بمسؤوليته عن اختفاء بورغيس بطريقة أو بأخرى.
وباستخدام طريقة اتصال لم يعلن عنها قام أحد موظفي MI5 بترتيب مقابلة مع أودن حول علاقته ببورغيس. وبحسب الملف: "كانت مهمتنا أخذ تأريخ مفصل لعلاقة أودن ببورغيس, وقائمة بأصدقائهما المشتركين, وكذلك بالطبع رأي أودن حول ما إذا كان لظاهر صداقتهما أي صلة مهمة قد تتعلق باختفائه."
ثم أضاف المصدر بشكل مبطن: "إن قيمة هذه المقابلة قد تتأتى من اعتمادها على ما سيقوله أودن بنفس القدر من اعتمادها على ما لن يقوله". ومع أن بورغيس كان يبدو أقل أهمية بالنسبة للكرملين من فيلبي وماكلين, إلا أن اختفائه كان يمثل الإخطار الأول للوحدات الأمنية البريطانية إلى أنها مخترقة من قبل حلقة من الجواسيس السوفييت. آلاف الوثائق تم نقلها إلى أيدي السوفييت عن طريق هؤلاء الرجال, ويبدو أنه قد تم إصدار أمر إلى بورغيس بمرافقة ماكلين إلى موسكو بسبب الخوف من رعونته التي قد تؤدي إلى افتضاخ أمر فيلبي, العميل الذي استمر بالعمل إلى عقد آخر من السنوات بعدها.
ومع أن أودن تفادى المثول للتحقيق أمام MI5 بسفره من إيطاليا إلى أمريكا, إلا أن الملفات أظهرت أن الشاعر غيّر روايته لاحقاً إلى مصدر آخر (غير مُسمّى) حول عدم تلقيه خبر اتصالات بورغيس.
في مذكرة من MI5 إلى MI6 تقول: "اعترف أودن على مضض أن سبندر ربما كان محقاً في أنه أخبر أودن حول اتصالات بورغيس. صحيح أن أودن كان يتناول الكحول بإفراط, لكن (المصدر غير المسمى) يشعر أن أودن ربما كان يكذب عندما صرح في وقت سابق أنه لا يتذكر أي شيء حول اتصالات بورغيس".
وبالرغم من أنه تم رصد وتسجيل كل الزيارات إلى كوخ الشاعر خلال الصيف, إلا أن MI5 قررت أنه من المستحيل إقامة الدليل على العلاقة بين أودن وهروب بورغيس.
من جهته قال أودن أن بورغيس ربما حاول الاتصال به فقط من أجل الاتفاق على زيارة إلى إيطاليا كان الرجلان قد ناقشاها سابقاً قبل عدة شهور.


حياة أودن:
كان و.هـ. أودن يمثل الشاعر حامل المصباح لمجموعة من الكتاب البريطانيين المعروفين باسم "شعراء الثلاثينات". وكان من الأعضاء الرئيسيين الآخرين في المجموعة كلٌّ من لويس ماكنيس وستيفن سبيندر وسيسل داي لويس وكلهم اشتركوا مع أودن في ميولهم وأرائهم اليسارية.
ولد أودن في يورك عام 1907, وتأثر بتوماس هاردي وروبرت فروست وجيرارد مانلي هوبكينز, وبدأ بصناعة اسمه في اوكسفورد حيث التقى سبيندر وكريستوفر ايشروود الكاتب الذي سيكون رفيق دربه. نشر أودن أكثر من 400 قصيدة وقد أثار الإعجاب ببراعته الفنية وقدرته على الكتابة بأشكال متعددة.
وكالعديد من الشبان في جيله اعتنق الشيوعية كبديل عن صعود الفاشية وخدم في الحرب الأهلية الإسبانية, لكن تم انتقاده لتركه انجلترا عام 1939. سافر مع ايشروود إلى الولايات المتحدة حيث التقى أخيراً بشريكه الذي سيرافقه طويلاً شيستر كولمان, وأصبح مواطناً أمريكياً. في سنواته اللاحقة توزعت أوقاته بين نيويورك والنمسا حيث توفي في فيينا عام 1973.
أصبح هنالك اهتمام متزايد بأشعاره حول العالم في السنوات الأخيرة, وقد بلغ ذروته في السنة الماضية خلال مئوية ولادته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة الغاوون - بيروت

الشعر العبري في مرآة

نظرة على الشعر العبري الحديث




برنارد فرانك
ترجمة: تمام التلاوي





مقدمة المترجم:
الدراسات العربية التي عالجت الشعر العبري وقاربت أدبه كثيرة عموما في عالمنا العربي, ولكنها كانت في أغلبها تقرأه من زاوية واحدة دائما, هي زاوية (شعر العدو), وقد حاولت دائما رصد الذات العربية ورصد الصراع حول الأرض في هذا الأدب, أما الدراسات التي تناولته من وجهة نظر محايدة فقد كانت نادرة جدا أو معدومة, ولم يجرؤ أحد على مقاربة هذا الأدب كأدب موجود في العالم شأنه شأن أي أدب آخر, لا لشيء إلا للتعرف عليه. وطبعا معهم الحق في ذلك, ولهم مبرراتهم الدامغة ضمن إطار الحساسية الشديدة في الموقف السياسي بين العرب واليهود من جهة, وبسبب خوفهم من الاتهام بالعمالة والتخوين والترويج للعدو من جهة أخرى.
لا شك في أن الظرف التاريخي الحالي لا يسمح لنا أن نقرأ الأدب العبري قراءة أدبية محايدة كأدب عالمي له جمالياته الأدبية أيضا, لكن ألا يسمح لنا على الأقل أن نلقي على حركتهم الأدبية الحديثة نظرة محايدة.
هذا المقال كتبه برنارد فرانك وهو شاعر يهودي يعيش في أمريكا ويكتب الشعر العبري, وهو يشرح بإيجاز مسيرة الشعر العبري الحديث, و سوف نطلع من خلاله على هذه الحركة الشعرية بعيون شعراء العبرية لا بعيوننا, وبرؤيتهم الثقافية لا برؤيتنا, محاولة منا لمعرفة كيف ينظرون إلى أدبهم وإلى أنفسهم, خصوصا وأننا نعلم تماما كيف ننظر نحن إلى ذلك. أما لماذا الشعر العبري بالذات؟ يسألني سائل, فأجيبه ببساطة شديدة: لأنه الشعر العبري بالذات, ولأنه يخصني أكثر من الشعر النمساوي والبرتغالي والهندي والياباني لأسباب عديدة: فالثقافة العبرية هي الأقرب إلى الثقافة العربية ليس جغرافيا وحسب بل دينيا أيضا وفكريا وتاريخيا. ولأن اللغتان العبرية والعربية لهما لغة أم واحدة, والشعر هو وليد اللغة ووالدها في آن. وأخيرا لأنه شعر العدو وحركته الثقافية التي ينبغي لنا أن نلقي نظرة عليها ليس فقط من منظار (اعرف عدوك) أو (اعرف كيف يعرفك عدوك), وإنما أيضا (اعرف كيف يعرف عدوك نفسه) وكيف يفهم لغته كأداة فنية ومعرفية, وكيف يستخدمها لتصوير ذاته الإنسانية في شعره وأدبياته على امتداد حراكه الثقافي والشعري.
في هذا المقال يعتبر فرانك أن الحركة الشعرية العبرية الحديثة التي بدأت منذ قرن تقريبا, أي مواكبة لحركات الحداثة في الغرب, كانت بريادة الشاعر خاييم نيكمان بياليك, وليس سواه كما تقول دراسات أدبية أخرى, وهو يدافع عن رأيه ويسرد مبرراته لهذا الاعتبار. كما يشرح لنا بطريقة سلسة ومدعمة بالشواهد المراحل العديدة التي مر بها هذا الشعر, وسنجد أنه في أحد مراحله تخلى عن الأيديولوجيا, أو الأدلجة الشعرية, عندما برز جيل شعري كامل عرف باسم جيل الانسحاب من اليقينية أو العقائدية, هذا الجيل الذي تميز شعراءه بالميل إلى الشك بفكرة الأرض والميعاد, وانحازوا إلى الإنسان وإلى القصيدة الوجدانية التي تنبش في العمق الإنساني بدلا من النظر إلى المحيط, وتبحث في وجودية الذات بدلا من المسلمات الفكرية الجاهزة حول الأرض والمصير. كما سنلاحظ من جهة أخرى ضمن سياق المقال كيف يسمي كاتبه الشعراء اليهود الذين عاشوا في فلسطين أو قدموا إليها من أوروبا بـ (الشعراء الفلسطينيين), وكيف يسمي فلسطين نفسها بـ (الأرض المقدسة), وكيف يشبه (الجاسوس) العربي بـ (السنجاب), وهذه بلا شك مصطلحات كفيلة باستفزاز أشدنا حيادية وموضوعية وأكثرنا برودة. وسنرى أيضا كيف أن أغلب موجات الشعر العبري الحديث, على اختلاف مراحلها وشعرائها واختلاف لغاتهم الشعرية وعلاقتها باللغة التوراتية, نظرت إلى اليهودي كضحية مطلقة سواء بين الأوروبيين أو بين العرب عموما والفلسطينيين تحديدا. لكن مع كل هذا لا شيء سيمنعنا من أن نقرأ دراساتهم حول أدبهم وأن نعرف شيئا عن حركة الشعر العبري الحديث كجزء من اطلاعنا على حركة الشعر الحديث لبقية الثقافات واللغات الحية.



الاتجاهات:
إذا اعتبرنا كالعادة أن خاييم نيكمان بياليك -الذي نشر قصيدته الأولى (إلى طائر) في أوديسا عام 1892- يمثل بداية الشعر العبري الحديث, فإن هذا الشعر يكون قد اجتاز للتو مئويته الأولى. هذه الفترة الوجيزة التي أظهرت حتى الآن عدة موجات جديدة صعودا وهبوطا.

خلال بدايات الأربعينات من القرن العشرين, في السقيفة المصنوعة من الزنك التي خدمت كبديل مؤقت للحجرة الدراسية في راماتايم, كانت تقرأ علينا وبشكل يومي قصائد من تاناش أولا ثم من بياليك, وبالنسبة لنا كيافعين فقد كان هذا ببساطة هو الشعر العبري. ولكن تخيلوا كم كانت دهشتي عندما شرعت عام 1980 بالإشراف على تحرير ملف حول الشعر العبري الحديث لمجلة ايوا الجامعية وفوجئت أن بياليك كان خارج نطاق البحث.. لم أصدق!

كيف ولماذا, خُلع عن عرشه هذا الشاعر الوطني الكبير (1873-1934)؟ ربما قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نبحث أولا عما كان وراء اعتلائه هذا العرش. وهو بالطبع حقيقة أن الكتابة بالعبري التي أنعش استخدامها كان متفردا بها تقريبا في هذه الثقافة الحية. بالإضافة لذلك كانت حقيقة شهوده المذابح الروسية ومعاناة رفاقه اليهود التي أدت به إلى كتابة أغاني ملتهبة العاطفة:
تعال معي إلى مدينة المذبحة, تعال ادخل إلى ساحاتها, شاهد بعينيك, وتلمس بيديك -على السياج والأشجار, على الصخور وعلى الجدران اللزجة- الدم الحي المتخثر, والأدمغة المتفحمة للموتى.
قصيدة (في مدينة المذبحة)
[1]

وحتى عندما وظف ذاكرته الشخصية فقد أنشد بياليك بطاقة عظيمة كما نرى في الأسطر التي في مطلع قصيدته (أبي):
غريبة كانت طريقة حياتي وعجيبة كانت أحوالها,
بين البوابة الجرداء والعربة الملوثة هي دورة أيامي: من الإنغماس بالتعبد إلى الفساد, ومن الطهارة إلى القذارة
نرى الرعب وما يلاحظه الطفل في الخان المليء بالمخبولين غير اليهود
الرزق الأبوي, والكرب التالي عندما يغادر حضن الله كل صباح,
الربيع التام لحياته, عندما يضع جانبا كساءه المقدس: التاليت والتوتافوت
[2] ..

لقد قام بياليك -بشكل لا مناص منه ربما- بالانهماك بعمله, وعكَس كلا من الطاقة والحساسية الروسية الخاصة التي انتقدها بقسوة. وقد كان النظير لعمله متمثلا في النمط العام الفعال من الشعر عند حابيما الشاعر الشهير وعند النجم حناه روبينا وخصوصا في الإيماء الرفيع والصوت المفخم.
وإن هذه التقنية هي التي حولت الجيل الجديد ليقف ضد بياليك. أي جيل الفترة الفليسطينية الذين دعوا أحيانا بشعراء المدن, بقيادة أبراهام شلونسكي الذي وجد أعمال بياليك ذات مرجعية أخلاقية شديدة, ولغتها متصلة بقوة بلغة التوراة, فروحهم التي طرأ عليها النزوع إلى الاستقلالية والحرية لم تقبل لقلوبهم أن تلبس رداءا موحدا, ولم تقبل ذهنية اليهودي كضحية, على الرغم من أن قصائد بياليك في عدة مرات قرّعت الجماعات الورعة على استسلاميتها. وقد كان تقييم شلونسكي لشعر بياليك في 1931 أنه شعر قديم ومحافظ.

لقد دافعت المدرسة الحديثة عن الأسلوب ذو النزوع الغربي أكثر من أسلوب لغة بياليك الصافية ذات الجذور التوراتية, ففضلت الرقة في العاطفة والرموز الميالة للوضوح والنصوص ذات المسحة الغربية على العواطف والانفعالات العائدة إلى شرق أوروبا. كما أخذت بعين الاعتبار مدرسة الزراعيين التي نشأت في بدايات القرن العشرين, والشعراء الاجتماعيين الذين كتبوا أغاني وطنية واحتفوا بالروح الريادية. القصائد الأكثر تذكرا من هؤلاء هي قصائد راحيل بلوشتين التي لحنت وأصبحت أغنيات شعبية. فقد فضل الشعراء المدنيين مدنيتها وذلك القلق واليأس الذي يأتي معها.
في قصيدة (هذه الليلة) لناتان الترمان (1910-1970) وصف لعلاقة حب تفشل في ظل مشهد مديني:
هذه الليلة. التوتر في هذه الجدران. صوت يستيقظ ويأمر. صوت يستجيب وينقطع. عناق فاتر. ووميض ابتسامة متكلفة. الحياة والموت في شمعة. ثم القمر الذي يتقنع بأقنعة من التحديق الجليدي للشمع, النافذة, مشهد الطبيعة, وبناء السوق الهاجع, والمشلول بضربة من الأيدي الممتدة الوحشية للمركبات والروافع.

يأخذ شلونسكي (1900-1973) اليأس المدني خطوة أبعد في قصيدته (خطبة جون دو حول جيرانه):
لبناء شقتي خمس حكايات.. لكن بالنسبة إلى تلك التي قفزت من النافذة المقابلة, فإن ثلاث من تلك الحكايات كانت كافية جدا..

كما أن ليه غولدبيرغ (1911-1970) ربطت القلق المديني مع العجز المصاحب للتقدم بالسن في قصيدة (حول مخاطر التدخين):
صباح ممطر. لا تنهض. ولا تدخن أيضا. لا تقرأ كثيرا. أليس هذا ربيعا غريبا, أليس ربيعا غريبا! وكأن العتمة في الصباح..

ولأن لكل موجة حركة مضادة, فقد تم عزل هؤلاء الشعراء الفلسطينيين من قبل الجيل الأصغر بقيادة ناتان زاخ, هذا الجيل المتضمن لمواهب متنوعة مثل يهودا عميحاي, دان باجيس, داليا رابيكوفيتش, وديفيد أفيدان. والمشتركين ببغضهم للمدرسة الأقدم أكثر من أي عقيدة فنية لهم, فقد ابتكر هؤلاء الشعراء ما يسمى بالانسحاب من اليقينية, واستحدثوا استخدام السخرية, وكلا الأمرين يمكن أن تجدهما في قصيدة عميحاي (أبي):
وبعينه جمع الأموات الذين لا أسماء لهم, عدد وفير منهم جمعهم باسمي, حيث أستطيع تمييزهم في نظرته الخاطفة وأحبهم
الموت لا يكون هكذا.. بالخوف القاتل...
لقد ثبت عينيه معهم وما زال يخطئ قائلا: لكل معاركي أنا متيقظ.

كما تم دمج السريالية في هذه الفترة مع العقلانية (التفكيرية) كما في قصيدة باجيس (الفيل):
إنه يتخطى السادس عشرة بطريقة مدهشة كساعة اليد المضبوطة, ويعبر أربعة بكل قدم, كما ينزلق عليها بسهولة بواسطة المزاليج متخلصا من ضخامته الفيلية.

وفي أعمال رابيكوفيتش مشاهد خاصة من اللاوعي تمضي يدا بيد مع النسوية كما في قصيدتها (الفستان):
ماذا سيجري لك, قالت, لقد فصلوا لك فستانا براقا.
لقد فصلوا لي فستانا براقا, قلتُ, أعرف هذا.
إذن ماذا تنتظرين, قالت, كوني حذرة, ألا تعلمين ماذا يعني الفستان البراق؟
أعرف, قلت, لكني لن أكون حذرة. ذلك الأريج القديم يربك عقلانيتي. وقلت لها: ليس لأحد حاجة في أن ينسجم معي فأنا لا أضع الحمقى في المآسي الإغريقية.

ولكن العدالة الشعرية أخذت طريقها, فهؤلاء الذين عزلوا غيرهم تم عزلهم كذلك, والموجة التالية من الشعراء الأصغر, ومنهم مائير فيزلتير وبنخاس صادح ويونا فالاخ, ويائير هورفيتس تبنوا النمط الذي يتماشى مع النظر إلى الخارج بدلا من الداخل. وتم اقتراح أن هؤلاء الشعراء قد أكملوا الدائرة الفنية لبياليك, وطالما أن دوائر التاريخ لا تنغلق أبدا فإنهم في قد شكلوا بذلك حلزونا. وإن موقف (الأغراض الرجيمة) للشعراء الأصغر هؤلاء قد تصالح وإن بصعوبة مع لغة بياليك:
القذيفة ترسم ضوءها في السماء, وتقطر دفئا نقيا من الضوء, ثمارها الاحتفالية تضرم الزرقة في بركتها خارجة من عتمة البذور. أحلم بصخرة محطمة يجري على وجهها الماء, لأرى الجداول في ليل نقي.
في هذه القصيدة لهورفيتس ( في ليل نقي) يتغلب الأسلوب والصورة على المعنى. وفي قصيدة ويستلير (الحذر يقي من النكبات) فإن الأسلوب يندمج مع سياسة الالتزام:
بحذر اجتمع وزير الخارجية مع وزير الدفاع
بحذر أصدر وزير الدفاع أوامره إلى قائد الطيران
بحذر أبعد التلاميذ دراجاتهم من بين الغيوم
بحذر ناور بائع الخضار بين الفواكه والعسل
أما القصيدة بعد خمس وعشرين خطا من الحذر المنسق فقد أنهت بقوة هدوءا غريبا كما لم نعرفه من عصور.


المواضيع:
طالما كانت هناك حركات عديدة قصيرة متعاقبة فإنها غالبا سوف تنهار كفقاعة الخبز عندما يدخل من الخارج عبر باب الفرن هواء بارد. ويمكننا أن نرى الآن أن القصائد التي عالجت الموضوع ذاته تغلبت في أغلب الأوقات على تقلبات الموضات الشعرية العابرة. وهي لم تكن فقط الأصوات الحزينة التي صورت الهلوكوست غالبا وإنما أيضا كانت الصدى لاستجابة بياليك العميقة للمذابح.
يوري زفاي غرينبيرغ (1894- ....) وصف إبادة الشعب اليهودي الأوربي من خلال صورة عنيفة:
حتى الطيور نفسها لا تدري من قص لها جناحها. انظر ولاحظ, فيما هي تحلق في الهواء تميل إلى جانب واحد..
ولا حتى قطرات الدم تدري ولا الذاكرة متى ستصنع الطيور رحلة عادلة بزوج من الأجنحة.
قصيدة: (القص)

وإليكم أبا كوفنر (1918- ....)
كان أبونا, شاكرا لله, يأخذ خبزه من نفس الفرن لأربعين سنة. لم يكن ليتخيل أبدا أن أناسا سالمين قد يقضون في الأفران وفي هذا العالم, توكل على الله وتابع السير..
قصيدة: (أختي تجلس مبتسمة)
[3]

و إتمار يا اوز كيست (1934- .... ):
في قطار سكة الحديد, المشهد مأخوذ بالرعب, ويقلب مرتبكا صفحاته: الشجر, السماء, الأنفاق...
وفي القطار, يقوم الحارس ضاحكا بقطف رأس بهيمة نابت على عنقها.
قصيدة: (المحاكمة بالنار)

على الرغم من أن كوفنر أكثر مباشرة و يا اوز كيست أكثر رمزية فإن كلا الصوتين اشتركا في الألم والغضب:
شعراء متنوعون اشتركوا أيضا في تلك النبرة العميقة من الحب لمشاهد الطبيعة الإسرائيلية:
الشمس لا تنشر إلا ياسمينها, الحجارة ليس لها صوت سوى صوت نبض القلب, الغروب مكتس بالبرتقالي الشفيف, والرمال ليست سوى الشفاه التي تقـبّـل.
ليه غولدبيرغ, قصيدة: (شمسين نيسان)
ويقول هورفيتز أيضا (1941- ....) في قصيدته (لأجل حبيبتي التي تنهض باكرا):
المساء الصامت الصامت يمر عبر الشجرة والقلب. الأرض تسلم وجهها إلى بركة السماء, وزفير الرياح البارد ينثر العتمة في الأوراق الملتفة, ويعلن للشجيرات المشتاقة عن قدوم المطر إلى الجذور الظمآنة.

بالرغم من إيقاعات غولدبيرغ, وتوظيف المجازات الواضحة, فإن هورفيتز يعتمد على الإيقاع بطريقة أكثر صخبا, ويضفي لمسة من السوريالية, وهما يتشاركان بعاطفتهما تجاه الأرض. وهذه العاطفة ليست أكثر بروزا منها بالنسبة للشعراء الذين يكتبون من الخارج:
يقول موشيه دور (1932- .... ) في (طيور البلشون قد عادت)
[4]:
طيور البلشون قد عادت إلى بحيرة هولا, إلى أدغال القصب وجداول المياه التي تحافظ على الإنسياب بهدوء بالرغم من شبكة مصارف المياه والأحلام. مترقبي الطيور يقولون إن طيور المستنقعات النادرة هي هناك الآن ويمكن مشاهدتها.
أما هنا فإن الأشجار المعدنية تتجمد في الظلال الباردة للأبيض والرمادي...

إن حب الوطن وذكريات الماضي البشع تتوحد بقوة في القصيدة عندما يتحدث الشعراء عن الصراع الإسرائيلي العربي والحرب. ففي قصيدة (قطر القنبلة كان ثلاثين سنتمترا) يصبح صوت أميخاي نثريا عندما يثرثر بيانا حول النتائج:
.. بلغ قطر انفجارها حوالي سبعة أمتار وقد قُتل بها أربعة وأصيب إحدى عشر.
لا لن أشير حتى إلى صراخ الأيتام الذي وصل إلى عرش الله واندفع من هناك مشكلا دوائر من اللا إيمان واللا نهاية.

.. (لا لن أشير حتى)؟ لكنه يفعل ذلك بالطبع ويضرب ضربته في بيت القصيد بطريقة أكثر براعة, لكنها ليست أقل مرارة من صرخة بياليك الأولى في قصيدته (عن المذبحة):
آه أيتها السماوات, تشفعي لي! إن كان هنالك رب يحشر الناس فيك فقد فاته إدراكي ولذا عليك أن تصلي لأجلي!.

أما شعر الحب فقد كان متجاوزا بالطبع لكل الاتجاهات الشعرية والأزمنة, مع أنه يميل إلى الانقسام على طول الخط الفاصل بين الجنسين. إليكم أيستر راب (1899-....):
ذراعاي ممتدان إليك, إلى شرارة الضوء في نظرتك الخاطفة, إلى ومض أسنانك على جسدي الواهن الأصفر..
قصيدة: (ذراعاي ممتدتان إليك).
وكذلك داليا رابيكوفيتش(1936- ....):
في تلك الليلة لم أكن سوى دمية أدار إلى اليمين واليسار, وإلى كل اتجاه, وأكب على وجهي, فأتكسر في سقوطي.. ويحاولون أن يعيدوا تركيب أجزائي.
قصيدة: (الدمية).
إن المازوخية التي لا مفر منها والروح الإنهزامية تنعكس في قصيدة راب بشكل متوافق كفاية مع النسوية لدى رابيكوفيتش. وفيما يكتب جيل راب الأقدم الشعر الحر مقدما لمسة مناسبة من التحررية, فإن جيل رابيكوفيتش الأصغر يوظف أسلوب القصيدة المنظومة. وهناك الكثير مما يصلح للتعميم حول الحركات الشعرية.
أما بالنسبة للشعراء الذكور فإن نزوعهم نحو الاحتفاء بحب الأنثى ليس بمعزل عن التشكك:
يقول يوناتان راتوش (1909- .... ) في قصيدة (المليون).
في الماضي –تماما كما هو الحال الآن- كان هنالك مليون امرأة في هذا العالم –طاهرات أو عاهرات-
دعوه يأخذهن جميعا وحتى آخر واحدة من المليون الممتلئات بالعشق, فأنا لا أحتاج سوى امرأتي تلك التي أعددت نفسي لأصنع معها البهجة.

إن نفس الأسلوب على حريته يعارض نفسه أحيانا بالاعتراضات ثنائية الجانب للمتكلم, الذي يطوق إعجابه بمقدار خفيف من الإزعاج. كما يقول يهودا أميخاي (1924- ....):
لأجل حبيبتي, التي تمشط شعرها بلا مرآة وتغني بقربي: لقد غسلت شعركَ بالشامبو يا حبيبي.. اشتياق هائل يفوح من الحنين الذي في رأسك.
لأجلكِ يا حبيبتي ترتعش من تحتنا الأرض. فلنستلقِ محتضنين بعضنا, كالقفل المزدوج.

هنا نجد ثانية بصيص التقليد في الافتتاحية التوراتية وفي الإغراق في الأحاسيس الباطنية التي تعكسها الرائحة المنبعثة من شعر الحبيب وفي الصورة الجنسية في الخاتمة.

الأصوات الشعرية الثابتة:
إن الخط البياني للحركات الشعرية صعودا وهبوطا يملك لحسن الحظ هامش عمودي من الشعراء الذي تجاوزوه والذين ما يزالون محتفظين بصوتهم ومبقين على ذواتهم الحقيقية, فيما كيفوا أسلوبا جديدا هنا وهناك وتقنية جديدة جديرة بالاعتماد.
ولد موشيه دور في 1932 في تل أبيب واعتنق رأي زاخ في الانسحاب من اليقينية. كيف يمكن للأب أن يزرع الإحساس بالأمان؟ عندما يقول:
أنا في ضياع على هذا الشارع ذاته الذي انتظمت بيوته وحدائقه كطاولات المقهى.
يدي ما تزال في يد ابني وما تزال نظرته محدقة في وجهي
قد لا تتزحزح سفينته..
فيما أنا أتظاهر بالشجاعة واللياقة.
قصيدة (في ضياع)

ليس لدى دور إجابة. وهو لا يتردد بعد سنين من ذلك, فيما يتعامل مع عدم أمان آخر –المتعلق بكبر السن- في توظيف التفعيلات والإيقاعات الوزنية:
حبيبتي, ليست هذه الطريقة التي صورتُ بها حياتنا عندما احترقنا حتى التوهج بالبحر المتوسط,
لقد ابتلعنا المسافة كعشرين سنة مضت, وعميت أعيننا بالنار والاشتياق.
العالم الآن لوحة فلمنكية, ونحن في داخلها.. في تدرجات الألوان الزيتية الداكنة.
إن كان صحيحا الآن أن ملاكا ما يطرق بابي, فأنا لا رغبة لي بأن أعرف أنباء الله.
قصيدة (لوحة فلمنكية)
[5]

إيلي نيزير ولد عام 1933 في بودابست. وبالرغم من أنه خدم في عدة مراكز ثقافية في الخارج, فإن حقيقة أنه عاش في كيبوتز داليا منذ وصوله إلى إسرائيل عام 1949 قد أضفت على شعره صفاء وهدوءا يحسد عليه حتى إن سخريته قد تلاشت:
أخرج ثيابي القديمة من الخزانة
وأكسو بها جسدي
إن ثيابي القديمة حقا هي الأفضل..
هكذا كتب في قصيدة (ثيابي المفضلة), لماذا؟ لأنها تعبق بالأريج الأصلي وبالذكريات الحميمة وبالعاطفة أيضا. فالعاطفة في أشعار نيزير لا خلاف عليها.

زافريرا جار التي ولدت في بيتاتش تيكفا عام 1926 غنت لعقود بلا صخب موسيقي. وانقسمت أعمالها إلى نمطين بارزين. النمط الأول وظفت فيه الإدهاش وغالبا التخييل الطباقي كالضوء –الشمس- والعتمة, الحياة والموت, التفاحة والدودة.
في قصيدة (لطخة على الشمس) تصف الكسوف:
سنسرق نظرة أخرى ثم نشيح بعيدا. وللحظة طويلة, قبالة الجفون المحترقة, سنستبقي حواف الشمس التي تحترق كالحديد المحمى من تحت السحاب, قبل أن تهبط ثم تغيب.

فيما يحمل نمط جار الآخر حميمية كل من والت ويتمان ومعاصرتها الأصغر داليا رابيكوفيتش. وهي هنا تختار شخصيات عديدة لتوظيفها: كومبارس وأولاد وأليس في بلاد العجائب:
أنظر أيها الزئبق التافه! كيف أحتفظ بضئآلتي فيما يتطاول عنقي كالسلم.
لقد شهدتُ كل ما أردت معرفته –في حديقة أوراق اللعب وفي زحف الجيوش الكرتونية والملكة التي أمرت بقطع رأس أي متمرد- لقد شهدته حتى الخاتمة المريرة.
قصيدة ( أليس تخاطب الكأس المحدق)
[6]
النمط هنا سهل, وغالبا نثري الطابع, والتشخيص يحل محل التصوير القوي.

ولد إم أنفريد وينكلر في رومانيا عام 1922 وقدم إلى إسرائيل في 1959 وكان قد كرس بطريقة ما كشاعر عرف باسم اللسان القاتل. في دائرة أخرى تكاد تنغلق قام حديثا باستئناف تجربته الشعرية وقام هذا الخريف بتقديم قراءة شعرية في ميونخ. وإن أعماله العبرية هي الأقوى حتى الآن في اصطباغها بشدة العاطفة. إنه شاعر الرقة, الذي يغلف الألم والحزن أغلب أعماله. حتى قصائد الحنين تنتهي بتعليقات سوداوية, في قصيدة (المساء يطبق علي):
الليل يطبق علي كصدفة بحر سوداء, والسمك يهاجر على جسدي..
وعندما غنى للتوليب الأبيض الذي:
يشارف على الموت, ولا أحد قادر على حفظ التوليب الأبيض من الجفاف العظيم...
في قصيدة ( التوليب الأبيض), حيث يعكس بأفضل رمزية على طريقته موت الكثير من الجنود الإسرائيليين الشبان. إن تأثير الشاعر الروماني اليهودي الآخر العظيم باول كيلان ليس أقل منه اجتياحا في قصيدة الهولوكوست المعنونة بما يناسبها:( مذكرات من فكرة باول كيلان)
[7]:
اقتادوا والديك في عربة يقودها الثور إلى مكان لم يكن بعيدا وراء السبت الأخير. خازيديم يرقص في السماوات, حيث لا كلام هناك, حيث الكلمات صامتة, وما من ساحات مكتظة بالناس.

أخيرا, نعود إلى الجيل الأسبق, هناك صاموئيل شاتال (1913-....) في بينسكا الذي جاء إلى فلسطين عام 1929.
مهندس بالحرفة ولذا فمن الملائم أن تصقل أفكاره وتنظم كالحجارة في صف وبشكل مرتب:
الحجر العابث بالريح أعمل خياله وحفر في عيون الريح وردة شاحبة.. إنني أقتلعها.
قصيدة (الشتاء)
ولم يكن مفاجئا أن أحدث إصداراته الشعرية عنونها بالحجر.

شاتال الآن في ثمانينياته ومازال يكتب مع شيء من بريق الحب والشبق في عينيه:
كل ملك داود يجب أن يكون له مزاميره الخاصة, حتى ولو من أجل أن يحلم ويعجب بها فقط.

دعوني أختم بثناءات مختصرة للأصوات الخمسة الثابتة, الأكثر تفضيلا بالنسبة لي عبر العديد من الشعراء البارزين الذين ينشدون الآن في الأرض المقدسة:

خمسة منشدين\ طبّال واحد : ثناء
1- موشيه دور
في لوحة فلمنكية صمدت بوجه الأبدية حلمت بشواطئ مشمسة, مندفعا بعاطفة دائمة: الإطار ثقيل والتدرجات داكنة.
2- إيلي نيزير
العث اجتاح ملابسك القديمة, لكنك داومت على ارتدائها, الذكريات تحفظنا دافئيين.
3- زافريرا جار
آه, أليس في بلاد العجائب, حيث صانع القبعات المجنون يطلق النار على الأرنب, وحيث السنجاب هو الجاسوس العربي, لكن عنقك يمتد كالتوليب إلى الشمس وأنت تغنين.
4- إم وينكلر
في صدفة بحرية قرب أذنك يرتطم الماضي بأمواجها, وينسحب, تاركا مشهد الصحراء ذلك الذي أحببته, مرقّطا بحمالي الألم والأخبار التي لا تنتهي.
5- صاموئيل شاتال
الحجر: البداية والنهاية. أنت تبني القصائد, الجسور, والبيوت لأجلنا. وتصقل الحياة لتجعلها محتملة. شكرا لك.

برنارد فرانك
برنارد فرانك هو محرر زائر في قسم (الشعر ثنائي اللغة لكل الإسرائيليين) في مجلة الشعر العالمي, لخريف العام 1996م. ستنشر ترجماته في (بعد المطر الأول: قصائد إسرائيلية عن الحرب والسلام) المكرسة لمذكرات ييتزاك رابين. نشرت قصيدته: مرثاة لجيل أبي, في مجلة (اليهودية) في خريف 1994م.
[1] جميع الشواهد مترجمة من قبل برنارد فرانك عدا تلك المشار لها فهي من (الشعر العبري الحديث) : مجلة ايوا الجامعية, مدينة ايوا, 1980م.
[2] مسميات لأجزاء من اللباس الديني اليهودي (المترجم).
[3] مجلة كولورادو خريف/شتاء 1988 صفحة 74
[4] مجلة ويبستر, خريف 1994, صفحة 12.
[5] مجلة شعر الشرق ربيع 1995 صفحة 25
[6] مجلة الجديد في الشعر العالمي , خريف 1996
[7] مجلة الملف, شتاء 1994, صفحة 26
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في مجلة نزوى العدد 51

سهراب سبهري: لوحات لنقرأها.. وقصائد لنتفرج عليها







تمام التلاوي






قام الشعر الفارسي الحديث على أربعة أركان: نيما يوشيج الرائد الأول للشعر الحر, وفروغ فروخ زاد الصوت الأنثوي الدافئ والجريء, وأحمد شاملو المجدد الذي أثر أسلوبه النثري الرمزي على مجايليه ولاحقيه, وسُهْراب سِبِهْري الذي أدخل السوريالية على القصيدة ومزجها بصوفيته الخاصة..
لكن البعض لم يعتبر سهراب سبهري -الذي نتحدث عنه في هذه المقدمة الموجزة- شاعرا, بل اعتبروه رساما خلاقا وإنما يكتب شعرا عظيما, بينما اعتبره البعض الآخر شاعرا خلاقا وإنما يرسم لوحات عظيمة, وبالنظر إلى هذا الخلاف, يمكننا القول ببساطة أنه كان مبدعا حقيقيا على الضفتين, ولعل هذا ما ميزه عن الثلاثة الآخرين الذين كانوا شعراء وحسب. وبنظرة بسيطة على لوحاته نكتشف على الفور أنه كان خطاطا أيضا. لقد كان يرسم بذات التألق الذي يكتب به وبذات التألق الذي يخط به الحرف الفارسي, حتى أنك لتكاد لا تعرف نفسك إن كنت تقرأ لوحاته أم إنك تتفرج على قصائده, تلك القصائد المترفة بالصور والمجازات البلاغية, والمتدرجة من الوصف البسيط وصولا إلى التصوير السوريالي الذي يفتح نوافذ المخيلة على مكان يقع وراء الأمكنة, وعلى زمان يدور خارج الأزمنة.
ولد عام 1928م في قاشان ويقال ولد في قُمّ, ولكن الأكيد أنه عاش طفولته في قاشان وكتب عنها في قصائده. تخرج من كلية الفنون الجميلة في طهران. توظف في الدولة, وسافر وقضى أوقاتا من حياته في أمريكا وفرنسا وأفريقيا واليابان والهند وباكستان. أقام معارض عدة, وأصدر كتبا شعرية عدة, أولها "موت اللون" وأهمها "وقع خطوات الماء" و"مسافر" وآخرها "نحن لا شيء.. نحن نظرة", ثم فارق العالم على عربة سرطان الدم عام 1980م إلى خلف اللاشيء: " إن أردتم أن تأتوا إليّ فإني خلف اللاشيء..". لكن كل ما سبق لا يهمنا, ذلك أنه يتشابه مع الكثيرين الذين استطاعوا الحياة, فولدوا, وتخرجوا, وسافروا, ورسموا, ونحتوا, وأصدروا كتبا, وماتوا بسرطان الدم. ما يهمنا بالفعل هو الأمر الذي فعله سهراب ولم يستطع فعله الآخرون, ما يهمنا هو هذه المخلوقات والعوالم المتفردة التي رسمها بالحروف تارة وكتبها بالريشة تارة, ما يهمنا هو تلك الصوفية الشديدة الخصوصية لديه, والتي مزج فيها صوفيته المانوية الإيرانية ذات المنشأ الثقافي الإسلامي التي ترعرع عليها, بالصوفيات اليابانية والبوذية والهندوسية التي اكتسبها في رحلاته, فشكل مركبا سحريا يتفاعل مع الطبيعة والحياة والكون تفاعلا شديد الجمال وبالغ الخصوبة الروحية. لكنه لا يتوقف عند هذا وحسب, بل يضيف عليه تلك المسحة اللونية واللغوية السوريالية, لينتج في النهاية تلك اللوحات السمعية والقصائد البصرية التي سحرت إيران والعالم, فتداولتها الأيدي, وطبعتها المطابع مرات عدة, وترجمتها الثقافات إلى لغاتها. وهو اليوم معروف لدى الإيرانيين لدرجة يكفي معها أن تقول: سهراب, هكذا وبدون ذكر الكنية, حتى يعرف الآخرون من هو المقصود.
ليس هذا فقط ما ميز حياته, فهناك أمر آخر أيضا, لا يستطيع فعله سوى أولئك الذين توحدت أرواحهم بالجمال وبالكون وبالعالم إلى درجة لم يعودوا بعدها قادرين على التواصل الحسي مع مفردات الحياة. فصحيح أن سهراب أقام في بلاد عدة, لكن أغلب حياته عاشها في قاشان مسقط رأسه, ولم تكن حياته في الدول الأخرى سوى عبور عابر استطاع من خلاله النفاذ إلى عمق ثقافاتها بأقصر وقت ممكن. وحياته في قاشان كانت شديدة التفرد والانعزال لدرجة اتهامه في وقتها من قبل النقاد بالتعالي عن الناس والمجتمع ومهاجمته لدرجة كادت أن تكسر آنية وحدته الخزفية:
"إن جئتم في طلبي
فتعالوا مهلا على رؤوس أصابعكم
لئلا تتكسر آنية وحدتي الخزفية الرقيقة..
[1]"
ومع أن قصائده كانت نثرية, إلا أنها كانت شديدة الإيقاع, وعالية الموسيقى, الأمرين الذين استقتهما لغته على الأرجح من إيقاع الطبيعة, وموسيقى الكون. فكانت جمله قابلة للتلاوة أكثر من قابليتها للقراءة النثرية, وكانت كلماته متناغمة الأحرف ومتناسقة التشكيل, وغنية بالجناسات والسجع, لدرجة تحسب قصائده معها موزونة عروضيا وما هي بموزونة.
أما في لوحاته فقد رسم الوزّة, ورسم العصفور, ورسم التفاحة والرمانة, ورسم الشجرة والنهر, والقارب والسمكة, ورسم الحروف والجمل الشعرية, ولكنه إذا دققنا في الأمر سنرى أنه لم يرسم شيئا منها, وإنما رسم الإنسان في أعلى صور تماهيه مع الطبيعة, ولون لوحاته بالحب الإلهي الذي تمتلئ به قوارير ألوانه وأجواف قلبه الأربعة.
بالمصادفة البحتة تعرفت على هذا الشاعر, وبمصادفة هي الأشد غرابة عثرت, أثناء العمل على هذه المادة عند أحد الأصدقاء, على قرص كمبيوتري يتضمن مختارات سمعية من قصائد هذا الشاعر عنوانها "در كلستانه", بصوت أحمد رضا أحمدي, ومرافقة موسيقية من الملحن هوشنك كامكار. حتى هذا الصديق لم يكن يعلم بوجود هذا القرص المنسيّ, ولكن ما لفت نظري إليه هو صورة الغلاف التي تشبه صورة سهراب سبهري. دهشتي الأولى كانت عندما اقتربت وقرأت الكلام الموجود على الغلاف, أما دهشتي الثانية فكانت عندما استمعت إلى هذا القرص. سحر خالص تمتزج فيه الموسيقى مع الشعر, أكملت على إيقاعه كتابة هذه المقدمة التي أرجو أن تكون وافية للتعريف بهذا المبدع إلى القارئ العربي.
أقول أخيرا, إنه بالرغم من التقارب التاريخي بين الثقافتين العربية والفارسية, فإنه مما يدعو للاستغراب أن معرفتي بهذا الشاعر كانت عن طريق الإنكليزية, كما إن المصادر الإنكليزية التي توفرت حول هذا الشاعر هي أكثر وأغنى بكثير من المصادر العربية, والقصائد التي أوردها فيما يلي قمت بترجمتها عن الإنجليزية, مرتكبا بذلك خيانة مضاعفة للغة الشعرية, إنما آملا منها أن تكون خيانة جميلة وممتعة.

* * *


النداء البدائي



أين حذائي؟
ومن كان ذلك الذي ينادونه: سهراب؟!
لقد كان صوتا حميما كلمسة الريح على ورقة الشجرة.
أمي نائمة
ومانوشهر وبارفانيه, وربما جميع أهل المدينة كذلك.

هذا ليل حزيران يمر برهافة على الثواني وكأنه قصيدة رثاء
فيما نسمة باردة آتية من زاوية اللحاف تكنس نعاسي
..إنها أحاسيس الفراق
ووسادتي ممتلئة بأغنية من ريش السنونو.
سينبلج الفجر
وسترحل السماء بهذه الكأس من الماء..

عليّ أن أغادر هذه الليلة
أنا الذي كلّم الناس في هذي البلاد من أوسع النوافذ
فلم أسمع أية كلمة تليق بزماني
ولم أر عينا عاشقة تحدق في القاع
لم يفتتن أحد بمنظر الحديقة
ولم يأخذ أحد طائرا ما بجدية إلى بستان ما..
إنني مكتئب كغمامة.

فيما مضى.. رأيت "حوري" –فتاة الجيران مكتملة النضج-
تدرس اللاهوت عند جذع شجرة الدردار الأشد ندرة على وجه الأرض
وكان هنالك أشياء أخرى
كانت لحظات من السموّ
رأيت مثلا شاعرة
مأخوذة بمنظر الأفق
كانت السماء تستلقي في عينيها
وكانت ليلة خارجة عن باقي الليالي
سألني رجل:
كم من الوقت سوف يمر حتى تنضج الكروم؟..

هذه الليلة عليّ أن أغادر
عليّ أن أحمل حقيبة كبيرة بما يكفي لتسع قميص وحدتي
وأن أمشي إلى حيث يمكن أن أرى شجر الأغاني الملحمية
أمشي باتجاه مدى السكون العظيم
الذي لا يكف عن مناداتي.

..شخص ما يناديني ثانية: سهراب!
أين حذائي؟؟


* * *



رسالة السمكة



ذهبتُ إلى البركة
آملا أن أرى انعكاس وحدتي في الماء
لكن لم يكن ثمة ماء في البركة..

قالت لي الأسماك:
ليس الذنب ذنب الشجرة على الإطلاق
لكنها ظهيرة الصيف الملتهب
فيما مضى, كان ولد المياه البراق يستلقي على حواف البركة
لكن نسر الشمس انقض عليه ورفعه عالياً عالياً في الفضاء
إنه الجحيم الذي حرمنا من الحصول على ذرة أوكسجين من الماء
وإنه البريق الذي تركنا مجتمعين مع بعضها كالرقائق.
وبدلا من هذا الضوء العظيم
كان لنا انعكاس ذلك الأحمر القرنفلي في الماء
حيث كان القلب يخفق كلما عصفت الريح خلف الطبقات المهملة
وكانت عيوننا نافذة للاعتراف بالجنة..
إن كنت ترى الله في ارتعاشات الحديقة
فابذل جهدك وأخبره أن "بركة الأسماك جافة".

..كانت الريح ذاهبة لزيارة الشجرة
وكنتُ ذاهبا لزيارة الله..
* * *



وقع خطوات الماء



الحياة إرث من السعادة
الحياة شراع عظيم كالموت
الحياة قفزة بحجم الحب
الحياة ليست أي شيء كان
إلا أننا نضعها على موقد العادات
وننساها..

ليس مهما أين أنا الآن
السماء دوما لي
النوافذ, الأفكار, الهواء, الحب,
الأرض, كلها لي
لماذا إذن تصبح قضية كبيرة
إن نبت فطر الحنين في وقت من الأوقات؟

لنخلع ملابسنا
فليس الماء سوى خطوة نحو البعيد
لنأخذ سلّة ولنملأها
بكل ما هو أخضر وأحمر

ليس علينا أن ندرك
سر الأزهار
لكن ربما علينا السباحة في تعويذة الأزهار
أو ربما علينا البحث عن أغنية الحقيقة
ما بين عظمة الصباح
وبين هذا القرن من الزمان..

* * *
[1] شاعر من أهل كاشان, غسان حمدان, مجلة المدى العدد 41.


نشرت في ملحق نوافذ -جريدة المستقبل اللبنانية- 3 حزيران 2007


الشعر الأمريكي الحديث

ثلاث شاعرات من ثلاثة أجيال

ترجمة: تمام التلاوي


1- نعومي شهاب ناي Naomi Shihab Nye:
شاعرة وكاتبة أغاني, ولدت عام 1952م لأب فلسطيني وأم أمريكية. نشأت وعاشت في العديد من الأماكن: سان لويس, ميسوري, القدس, سان أنطونيو, تكساس, وغيرها. الأمر الذي جعل السمة الغالبة لأعمالها هي مواضيعها حول المنشأ وفهم علاقتها بالمكان.
مجموعتها الشعرية الأولى هي: طرق مختلفة للصلاة, التي دارت مواضيعها حول التشابهات والاختلافات بيت الثقافات, الأمور التي ستصبح واحدة من المناطق التي ستركز عليها عبر مسيرة أعمالها.
كتبها الأخرى تتضمن مجموعات شعرية: تسعة عشر اختلافا للغزال, قصائد للشرق الأوسط, الحقيبة الحمراء والوقود, ومجموعة مقالات تحت عنوان: ليس في عجلة أبدا, ورواية لليافعين بعنوان حبيبي (قصة سيرة ذاتية لمراهقة أمريكية من أصل عربي تنتقل للعيش في القدس في السبعينات) وكتاب مصور:مركب الأغنيات, والذي هو أيضا عنوان أحد ألبوماتها الموسيقية, اما عنوان الالبوم الاخر فهو اللفت الأسود وكلاهما إصداران محدودان.
ناي حررت عدة انطولجيات شعرية لشعراء كبار وشباب. أشهرها هي: هذه السماء نفسها, وهي مجموعة قصائد من حول العالم, تحوي قصائد مترجمة لـ 129 شاعر من 68 بلد مختلف. أحدث أنطولوجياتها بعنوان: هل سيدوم هذا للأبد أم ماذا؟؛ قصائد ولوحات من تكساس.
تتميز قصائدها بالسهولة والمباشرة, وغالبا ما تعبر عن الصور العادية بطرق مدهشة. كما إن قدرتها على الدخول إلى التجارب الأجنبية وتأريخها من الداخل يذكرنا بإليزابيث بيشوب, في حين أن صوتها البسيط والمباشر يتماشى مع صوت معلمها ويليام ستافورد.
حازت على العديد من الجوائز والمنح, منها أربع منن جوائز بوشكارت, وجائزة جين آدامز لكتاب الطفل, وجائزة باتيرسون للشعر, بالإضافة إلى عدة تنويهات وشهادات من جمعية الكتاب الأمريكي.
تعيش شهاب ناي اليوم في سان أنطونيو في تكساس. وتصف نفسها بالشاعرة الجوالة, كما تقول أن أغلب شعرها من وحي ذكريات طفولتها ووحي رحلاتها.


نصف ونصف



ليس لك أن تكون,
يقول فلسطيني مسيحي, في يوم الفطر الأول بعد رمضان.
هكذا, نصفا بنصف ونصفا بنصف.
يبيع الأواني الزجاجية. ويعرف كل ما هنالك عن القطع المكسورة والشظايا الرقيقة.
إن كنت تحب يسوع فلن تستطيع محبة أي أحد آخر.

وفيما يكنس كشكه ذو الأباريق الزرقاء الواقع على جادة فيا دولوروزا, فإن الحجارة المصقولة تشعر بالقداسة. وغبار السكر المطحون يعلو المعمول المحشو بالتمر.

هذا الصباح أضأنا الشموع البيضاء الرفيعة التي التوت خصورها عند الظهيرة.
في إحدى المرات تشاجر الكهنة في الكنيسة حول أفضل موضع للوقوف. وكطفل, استمع إليهم أبي وهم يتقاتلون. ربما لهذا لم يكن يؤدي صلاته إلا بلغته.
لماذا أعض شفتي عند كل اعتراض.

ثمة امرأة تفتح نافذة ما –هنا وهنا وهنا-
واضعة مزهرية من الزهور الزرقاء على قماش برتقالي. وأنا أتبعها.
إنها تعمل حساء مما كانت قد تركته في القدر, لقد ذوبت الثوم, وطهت الفاصولياء.
إنها لا تترك شيئا خارجا.

* * *

2- دينيز دوهاميل Denise Duhamel:
ولدت في وونسوكيت, رودايلاند, عام 1961 مؤلفة للعديد من الكتب والمجموعات الشعرية. أحدث منشوراتها هو: ملكة لمدة يوم واحد, وهو مجموعة مختارات وقصائد جديدة (إصدار مطبعة جامعة بيتسبورغ, 2001). ظهرت قصائدها في عدة صحف وانطولوجيات, بما فيها مجلة الشعر الأمريكي الأفضل عام 2000.



باربي البوذية



في القرن الخامس قبل الميلاد
الفيلسوف هندي
غاوتاما علّم طلابه أن:"كل شيء إلى عدم"
و"ليس هنالك من روح".

في القرن العشرين بعد الميلاد
وافقته باربي على ذلك, لكنها تساءلت
كيف استطاع رجل بمثل هذا البطن أن يطرح المسألة,
هكذا
مبتسما وبلا قميص.


* * *
3- دوبيرا ايجر Deborah Ager:
مواليد عام 1971م. مؤسسة مجلة اثنان وثلاثون قصيدة. ظهرت مراجعاتها النقدية وأشعارها في عدد من المجلات منها: بلومزبيري, وجورجيا, وانكلترا الجديدة, وامريكا الشمالية, وكوارتيرلي ويست, وتاليزمان وغيرها. حصلت على جائزة دار ماك دويل للنشر, ومركز فيرجينيا للفنون الإبداعية. وقد كانت تلميذة تينسي ويليامز للشعر في اتحاد كتاب سيواني.



ليالي صيف لاموني يوا




صفارة المصنع تأمر العمال بالذهاب
وتخبرهم بأن المساء قد ابتدأ.

مادمت أعيش مع الرجل طويل القامة
الذي لم أحببه,
فإنني سوف أتجول في الشوارع
حالمة بإيطاليا..


لو عبرت معه الطريق المشجر
كان سيقول لي: انظري هناك
بين حجارة الرصيف القرنفلية
ثمة سماد يشبه الإسمنت.

ما أحلى رائحة ليالي الأربعاء
الليلة التي تسبق المزاد العلني
حيث ترحب بي الأبقار البائسة
وأنا أعبر البلدة قاصدة المنزل,
فيما البحيرة تصمت متعبة من أكاذيبي
.. متى سأقول الحقيقة؟

إنها الصفارة الآن
والمنزل هو حبيبي
أقضي بداخله الليالي
وأشطب معه الأيام.

* * *


نشرت في ملحق نوافذ ( جريدة المستقبل اللبنانية )


18 شباط 2007