كيلي ويتمان
ترجمة: تمام تلاوي
مقدمة المترجم:
هنالك العديد من الروايات التي تحدثت عن حياة المغنية الفرنسية الكبيرة إيديث بياف، كما عُرِضت المسرحيات وأخرجت الأفلام التي كان آخرها فيلم "الصبية" La M?me من توقيع المخرج أوليفر داهان في العام المنصرم. وفي الحقيقة، فإنه لم يتم الاتفاق على صياغة نهائية لمسيرة حياة هذه الفنانة، التي كانت مليئة بالأحداث الإشكالية والمأسوية في آن معاً، كما لم يستطع عمل واحد الإلمام بكافة جوانبها وتفاصيلها. وقد وجدت أثناء اطلاعي على حياة هذه الأسطورة الغنائية الفرنسية، الكثير من الاختلافات التي تصل أحياناً إلى درجة التناقض بين بعض المصادر التي تناولت حياتها. إلا أنني هنا اخترت مادة تحوي في طياتها على معلومات نادرة وجدلية لم ترد في بقية المصادر. ولا تتجلى أهمية هذه المادة في اعتمادها على مذكرات إيديث بياف التي كتبتها تحت عنوان "حياتي" وحسب، وإنما أيضاً بنقضها للأسطورة التي راجت طويلاً حول مكان ولادة إيديث بياف المزعوم على زاوية أحد الشوارع في جادة بيليفل في باريس، وفي تطرقها لبعض الجوانب شديدة الخصوصية والحساسية لدى بياف، ولا سيما مسألة علاقتها بالجيش النازي، وعلاقاتها الجنسية المتعددة كذلك.
***
الدوري الصغير
تقول الأسطورة إن إيديث بياف وُلدت على زاوية أحد الشوارع الباريسية بحضور اثنين من رجال البوليس. في الحقيقة، إن إيديث جيوفونا غازيون، ولدت في التاسع عشر من كانون الأول عام 1915، في مشفى تينون الواقع في جادة دو تشاين. ومن السهل تخمين سبب استمرار هذه الخرافة حتى وقتنا هذا، عند النظر إلى حياة إيديث بياف اللاحقة التي كانت مضطربة وإشكالية بما يكفي ليجعل من الولادة الطبيعية أمراً لا يتناسب ومجريات حياتها. لم يكن لدى إيديث ذلك الصبر من أجل التحقق من السيناريو الرائج حول ولادتها في الشارع، ذلك السيناريو الذي لازمها بشكل طبيعي طوال حياتها. وفي الواقع فإنها ربما أقنعت نفسها بأن تلك هي الحقيقة.
والدة إيديث، أنيتا جيوفانا ميلارد، كانت مغنية شوارع إيطالية؛ كانت مدمنة على الكحول، وتعمل مومساً في بعض الأوقات، وكانت معتادة على التجوال طوال حياتها بلا هدف، مسافرة مع فرق السيرك، تعيش في الأماكن العامة، وتصطاد الرجال من البارات. هكذا، ولمدة شهرين كاملين أهملت طفلتها الرضيعة، ثم تخلت عنها بعد ذلك لوالدها لويس غازيون. كان غازيون لاعباً شهيراً في السيرك، ولم يكن لديه لا الوقت ولا المهارات اللازمة لحضانة الرضيعة. فترك الطفلة لأمه، لويز، صاحبة أحد بيوت الدعارة في ليزيكس، التي قامت برعايتها خلال سنيّ طفولتها الأولى.
اعترفت إيديث أن تعرضها المبكر لحياة الدعارة قد حرّف نظرتها لطبيعة العلاقة بين الرجال والنساء. وقد كتبت في سيرتها الذاتية المعنونة "حياتي" قائلة: "إن هذه التنشئة جعلتني شديدة العاطفية.. لقد كنت أعتقد أنه بمجرد أن يشير رجل ما لفتاة، فإن عليها أن لا تتمنع أبداً. لقد اعتقدت أن سلوك النساء يجب أن يكون هكذا". إن اختلاطها المبكر بالرجال بهذه الطريقة، وعدم وفائها لهم في حياتها اللاحقة، يمكن أن يُعزى للدروس التي تعلمتها في ذلك الماخور في ليزيكس.
حينما أصبحت إيديث في عمر دخول المدرسة، قام والدها بتوظيفها لديه، وجعلها جزءاً من عروضه في السيرك والنوادي الليلية. وعلى الرغم من أن حياة والدها لم تكن مستقرة، فإنه أحب إيديث بعمق، وفعل ما بوسعه للعناية بها. في الخامسة عشرة من عمرها، كانت إيديث قد اكتسبت ما يكفي من حياة السيرك وعادت إلى باريس. في السادسة عشرة، حبلت من فتى يافع يعمل في توصيل الطلبات المنزلية، فأنجبت مارسيل، التي توفيت رضيعة بالتهاب السحايا. وكما هو حال أمها، فقد بدا أن لديها ضعفاً في المشاعر الأبوية. فلم يؤخذ لطفلتها سوى صورة واحدة في حياتها القصيرة، وتابعت إيديث بعدها حياتها سريعاً.
بعد وفاة الطفلة، تورطت إيديث مع قواد همجي يدعى ألبيرت. وادّعت بشكل غير مقنع، بأنها لم تعمل لديه مطلقاً كعاهرة، وإنما كانت تغني في الشارع، لتجمع النقود المعدنية التي كانت تسلمها له في نهاية اليوم. مرة أخرى تبدي إيديث هنا افتقارها للتعاطف مع الآخرين، إذ كانت مدركة جيداً لأفعال البيرت، الذي كان يضرب ويربط بالحبال أولئك النسوة اللواتي يجلبهن من البارات، لكن إيديث كانت سعيدة بمشاركته في غنائمه المكتسبة بطرق غير مشروعة، وكانت تقوم بتطعيم انتصاراته بالشامبانيا. ولم تتخلَّ عنه إلا بعد أن حوّل عنفه باتجاهها، عندما لطمها ذات مرة وصوب المسدس إلى رأسها.
تم اكتشاف موهبة إيديث عام 1935م، من قبل صاحب أحد النوادي الليلية يدعى لويس لوبلي. كانت مؤسسة لوبلي هذه تدعى "غيرني" وكان روادها من أبناء الطبقات العليا والدنيا في المجتمع على حد سواء، إسوة بالعديد من النوادي الليلية الباريسية في تلك الفترة. قام لوبلي بإقناع إيديث بالغناء في "غيرني" على الرغم من عصابيتها المفرطة، وأعطاها اسماً مستعاراً سيبقى ملازماً لها لبقية حياتها: الصبية بياف (أو الدوري الصغير، كما كانت تدعى غالبا بالإنكليزية، بالرغم من أن الترجمة الحرفية للاسم هي "الطفل الدُّوريّ") من هنا اكتسبت اسمها الفنيّ. كان تخصص بياف هو الأغاني العاطفية الراقصة، وبعد فترة قصيرة أصبحت باريس كلها تتحدث عن المتشردة صاحبة الصوت المحطِّم للقلوب. ابتدأت بإقامة صداقات مع المشاهير كالممثل موريس شوفالييه والشاعر جاك بورغيت.
في نيسان من العام 1936، قُضيَ تقريباً على مشروع إيديث الفني عندما عثر على مديرها لوبلي مقتولاً في شقته. وقد ذعرت عندما اعتُبرت مشتبهاً بها في القضية، إذ أن صيتها في مرافقة الشخصيات البغيضة أخلاقياً في المجتمع لم يكن ليساعدها في مثل هذا الوضع. عند نقطة الانحطاط هذه، توجهت إلى رجل أعمال يدعى ريمون أسو. ومع أن أسو كان متزوجاً، إلا أنه ساعد إيديث على تسوية أوضاعها مع البوليس، وبدأ معها علاقة عاصفة. سلّمته إيديث زمام أمورها الفنية، وتحت إدارته عاد نجمها للسطوع، وبعد فترة وجيزة كانت عروضها هي الأكثر رواجاً، وتحسن وضعها المادي بشكل كبير.
عام 1939، تركت إيديث أسو من أجل بول ميورس، وهو المغنّي الثري الذي قام بتقديمها إلى طبقة المجتمع الراقية الباريسية. وبينما كانت إيديث تستمتع بنمط حياتها الجديد، فإن علاقتها به لم تكن ممتعة، فكلا الطرفين كان عنيداً ومزاجياً، وكانت جدالاتهما غالباً ما تنتهي بالعنف. كانا صديقين للكاتب المسرحي جان كوكتو الذي استلهم مسرحيته "الحسناء الباردة" من علاقتهما المعقدة. وقامت إيديث بلعب دور البطولة في الإنتاج الأول للمسرحية عام 1940.
في هذه الأثناء كان الألمان يهددون بغزو البلاد. فقامت إيديث بتقديم عروضها لمساعدة الجيش الفرنسي، مع علمها بأن الأمل كان ضئيلاً. استُدعيَ ميورس للخدمة، لكن إيديث عادت للإطمئنان عندما رُفض ميورس في الجيش لأسباب طبية. جالا معاً في الأماكن غير المحتلة من فرنسا لكنهما أجبِرا في النهاية على العودة إلى باريس، إذ كان على جميع الفنانين تحت الاحتلال أن يقدموا موادهم تحت مقص الرقابة النازية. وقد تمت مضايقة البعض منهم أكثر من الآخرين، وبالنسبة للعديد من الناس فإن إيديث لم تتم مضايقتها بما يكفي. وفي الحقيقة، فإن إيديث بياف كانت تغني في كثير من الأوقات في الحفلات والولائم النازية. وعندما انتقلت للسكن في شقة تقع فوق أحد المواخير، استضافت إيديث وعناصر من غوستابو في شقتها. ادّعت لاحقاً أنها عضو في المقاومة، لكنها كصديقها موريس شوفالييه كانت موضع شك دائم. لا نعلم، من جهة أخرى، إن كانت قد ساعدت على الأقل يهودياً واحداً من معارفها ـ المؤلف الموسيقي ميشيل ايمير ـ على الهرب من فرنسا والموت.
لقد مرت إيديث بياف في مذكراتها مرور الكرام على الاحتلال، كما لو أنه أمر آخر يضاف إلى ما كان مهماً حقاً بالنسبة لها: حياتها العاطفية. ربما كانت تلك هي طريقتها في تجنب الحقائق، هذا إن كانت فعلاً قد تعاونت. لكن من المحتمل بالنسبة لشخص منشغل بنفسه كإيديث بياف، أن الحرب كانت بالنسبة لها عامل إثارة أكثر من كونها أمراً مأساوياً. كانت ترى أنه لا حاجة لتحليل الصراع مادام قد انتهى، ومادامت استعادت حياتها كما كانت قبله. وبالنسبة لشخص كان معروفاً من العامة بأنه متشرّد وبلا حوْل، فإن بياف أظهرت قدرة ملحوظة على التكيف، وقوة الإرادة ملحوظة. إذ أن "أنا" ها المتضخمة وطموحها الملتهب كانا يجعلانها تشعر بأنها قديسة.
خلال الحرب عاد والدا إيديث للظهور في حياتها. كانت سعيدة برؤية والدها، وقد استمرت بتقديم الدعم له حتى وفاته بعد عدة سنوات. وبالمقابل فقد كانت لأمها حكاية أخرى، كانت إيديث غالباً ما تستدعي عمال البار أو رجال البوليس لالتقاط المرأة السكرانة. تقول بياف: "يا لأمي البائسة.. لقد حاولت لأربع مرات حملها على تلقي العلاج، لكنها في كل مرة كانت تعود إلى رذائلها ثانية". كان موت أنيتا عام 1945 منحطاً كحياتها: وحيدة في غرفة فندق رخيص، وضحية لجرعة زائدة من المورفين.
هكذا، كانت حياتها مليئة بالمشاكل العائلية، كانت سنوات الحرب هي الأكثر إشكالية وإبداعاً بالنسبة لإيديث، وقد ألّفتْ أغنيتها الفريدة "الحياة الوردية" في منتصف فترة الإحتلال. قائمة الرجال الذين أقامت معهم بياف علاقات خلال تلك الفترة العصيبة تبدو كدفتر الهواتف الباريسي، لكن الأمور لم تكن لتصبح أفضل حالاً بالنسبة لها.
عام 1944، التقت بياف ايف مونتان، مغني الأندية الليلية المغمور. وكان رد فعلها الأول مفاجئاً، حيث تعاملت معه كأخرق، أو كمغنٍ عديم الموهبة استمع إليه الناس في زمن الحرب لأنهم لم يكن لديهم خيار آخر. أزعجها كثيراً ولعه بأغنيات رعاة البقر الأميركية. "لا أدري ما الذي يعجبكم به"، قالت إيديث لأصدقائها، "إنه يغني بشكل سيئ، ويرقص بشكل سيئ، ويفتقد الإحساس بالإيقاع. إن ذلك الرجل لا شيء". لكن المستمعين ورفاقه المغنين أحبوه على حد سواء، مما ضاعف من حنق إيديث أكثر. كتبت في مذكراتها: "كان يبدو أنه مسرور من نفسه لأنه أغضبني".
في إحدى أمسيات الفترة المتأخرة من الحرب، تم إقناع بياف من قبل بعض الأصدقاء بإعطاء مونتان فرصة أخيرة لأداء عرضه. وبالرغم من أنها لم تكن راضية كلياً عن أدائه، فإنها اعترفت على مضض بوجود مكامن كبيرة فيه للموهبة. عادت إيديث بعد ذلك ودخلت عليه في غرفة الملابس، لتقدم له اعتذارها عن الطريقة التي حطت بها من شأنه أمام الآخرين إلا أنها أخبرته بوضوح أنه مالم يغير أسلوبه في الغناء، فإنه لن يكون قادراً على الإستمرار. في الأشهر القليلة التالية، أقنعته بالتخلي عن أغنيات رعاة البقر وإلقاء النكات البلهاء. قالت له: "هناك نوع واحد فقط من الأغاني الجميلة.. إنها أغاني الحب". في البداية تفاجأ الجمهور، لكن مونتان أصبح في النهاية نجماً كبيراً في فرنسا، ومعروفاً حول العالم. كانت بياف دائماً ما تصر على أن علاقتها به كانت علاقة أفلاطونية صافية، وهذا الجزم كان معززاً بحقيقة أن مونتان لم يكن يبدي اهتماماً بها أكثر من باقي أصدقائها.
بعد الحرب، جالت إيديث في أوروبا، والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية، وأصبحت نجمة معروفة في العالم. لاحقاً، وفي عام 1951، تلقت بياف ضربة مأسوية إثر تعرضها لحادث سير مروع، سبب لها كسوراً في ذراعها وعدد من أضلاعها. وصف لها الأطباء المورفين، وسرعان ما أصبحت مدمنة. كتبت بياف في مذكراتها: " لقد عشت، لمدة أربع سنوات كاملة، كحيوان أو كامرأة مجنونة: لم يكن هناك شيء موجود بالنسبة لي عدا تلك اللحظة التي كنت أتلقى بها الحقنة لأشعر في النهاية بذلك التأثير المريح للعقار". وقد وصفت كيف كانت في الحالات الاضطرارية تقوم بحقن نفسها من خلال التنورة أو الجوارب، في الدقائق التي تسبق صعودها إلى خشبة المسرح. وفي المرة التي قدمت بها عرضها بلا مورفين حصلت كارثة، وقام الجمهور بالتعبير عن امتعاضه بأصوات مستنكرة وهي على الخشبة.
بدأت بياف كذلك بتعاطي الكحول بإفراط لتخفيف الألم. وقد صعقت الجمهور في كازينو "رويال" عندما راحت تتمايل على المنصة وتغني بشكل مبهم ومتقطع أغنية بالكاد كانت تتذكرها. انقطع أصدقاؤها عن الشرب أمامها، وراحوا يخفون عنها زجاجات الكحول التي تجلبها، ولكن بلا فائدة. وكما تتذكر تقول: "خلال تلك الأوقات، كانت تسكن في داخلي رغبة لا فكاك منها بتدمير نفسي. لا شيء كان بإمكانه ردعي. هذه الأزمات كانت تدوم لمدة شهرين أو ثلاثة. وعندما أصل إلى قاع الهاوية، وعندما يعتقد الجميع أنني قد انتهيت، كنت أجد فجأة في نفسي الإرادة لصعود المنحدر ثانية. لكنني سرعان ما كنت أعود للإنحدار ثانية حتى أصبحت مجنونةً عملياً". وأصبحت تُشاهَد بعد فترة وجيزة جوالة في حانات باريس، تلتقط الرجال الغرباء ليلطّفوا من وحدتها. لقد كانت تلك المرحلة تمثل ذلك الصدى الحزين والمذهل لحياة أمها.
عام 1952، استقرت حالتها جزئياً عندما تزوجت من كاتب الأغاني والمؤدي جاك بيل. كان بيل كحولياً كذلك، ولم يفعل شيئاً لثنيها عن الشراب. كان كلاً منهما يمثل محرضاً للآخر على الشرب الذي كان ما إن يبدأ حتى يستمر لعدة أيام متتالية. ومع أنه لم يكن يحبها فقد منحها العلاقة الأكثر استقراراً التي عرفتها في حياتها. لكنها أثبتت مرة أخرى عدم قدرتها على الإخلاص، وطلّقته بعد سنوات قليلة.
التقت بياف زوجها الأخير، ثيو لامبوكاس، عام 1962، كانت في السابعة والأربعين من عمرها فيما كان هو في السابعة والعشرين. كان لامبوكا ضعيف الموهبة، لكنه أراد أن يصبح مغنياً، ورأى في إيديث تذكرة للعبور إلى عالم الاستعراض. ومع أنها كانت في تلك الفترة في حالة صحية سيئة، إلا أنها فعلت ما بوسعها لجعل لامبوكا مغنياً حاضراً في الساحة الفنية، فقامت بتقديمه إلى الصحافة، وألّفت عدة أغنيات من أجله. وقد صعقا فرنسا بأسرها بزواجهما الذي دام أقل من سنة منذ تعارفهما. وبدا أن والديّ لامبوكا هما الوحيدان في كل أرجاء البلاد اللذان لم يكونا منزعجين من هذا الزواج. قام ثيو بأخذها إلى منزل عائلته، حيث العائلة بأسرها رحبت بها بكرم شديد. وكانت إيديث مستاءة لدرجة أنها انفجرت بالبكاء.
في بداية العام 1963، سجلت إيديث أغنيتها الأخيرة ""رجُل برلين" L homme de Berlin، وبعدها بفترة وجيزة أخذ لامبوكا زوجته المريضة إلى منتجع كوت دازور آملا بأن تستعيد عافيتها. أصدقائها القدامى مثل ريمون أسو وجان كوكتو أحسا باقتراب النهاية، فقاما بزيارتها للمرة الأخيرة. طلبت منهما إيديث أن يصلّيا للقديسة ريتا، القديسة شفيعة القضايا الخاسرة. ثم توفيت بعد الظهر في العاشر من تشرين الأول لعام 1963.
بعد سنوات من رحيلها، وفي احتفال شعبي كبير، قام موريس شوفالييه بإزاحة الستار عن اللوح 115 المنصوب في جادة بيلفيل في باريس، مخلداً ذكرى ذلك المكان الذي لم تولد فيه إيديث بياف. لقد تم الحفاظ على الأسطورة، كما هي.
تقول الأسطورة إن إيديث بياف وُلدت على زاوية أحد الشوارع الباريسية بحضور اثنين من رجال البوليس. في الحقيقة، إن إيديث جيوفونا غازيون، ولدت في التاسع عشر من كانون الأول عام 1915، في مشفى تينون الواقع في جادة دو تشاين. ومن السهل تخمين سبب استمرار هذه الخرافة حتى وقتنا هذا، عند النظر إلى حياة إيديث بياف اللاحقة التي كانت مضطربة وإشكالية بما يكفي ليجعل من الولادة الطبيعية أمراً لا يتناسب ومجريات حياتها. لم يكن لدى إيديث ذلك الصبر من أجل التحقق من السيناريو الرائج حول ولادتها في الشارع، ذلك السيناريو الذي لازمها بشكل طبيعي طوال حياتها. وفي الواقع فإنها ربما أقنعت نفسها بأن تلك هي الحقيقة.
والدة إيديث، أنيتا جيوفانا ميلارد، كانت مغنية شوارع إيطالية؛ كانت مدمنة على الكحول، وتعمل مومساً في بعض الأوقات، وكانت معتادة على التجوال طوال حياتها بلا هدف، مسافرة مع فرق السيرك، تعيش في الأماكن العامة، وتصطاد الرجال من البارات. هكذا، ولمدة شهرين كاملين أهملت طفلتها الرضيعة، ثم تخلت عنها بعد ذلك لوالدها لويس غازيون. كان غازيون لاعباً شهيراً في السيرك، ولم يكن لديه لا الوقت ولا المهارات اللازمة لحضانة الرضيعة. فترك الطفلة لأمه، لويز، صاحبة أحد بيوت الدعارة في ليزيكس، التي قامت برعايتها خلال سنيّ طفولتها الأولى.
اعترفت إيديث أن تعرضها المبكر لحياة الدعارة قد حرّف نظرتها لطبيعة العلاقة بين الرجال والنساء. وقد كتبت في سيرتها الذاتية المعنونة "حياتي" قائلة: "إن هذه التنشئة جعلتني شديدة العاطفية.. لقد كنت أعتقد أنه بمجرد أن يشير رجل ما لفتاة، فإن عليها أن لا تتمنع أبداً. لقد اعتقدت أن سلوك النساء يجب أن يكون هكذا". إن اختلاطها المبكر بالرجال بهذه الطريقة، وعدم وفائها لهم في حياتها اللاحقة، يمكن أن يُعزى للدروس التي تعلمتها في ذلك الماخور في ليزيكس.
حينما أصبحت إيديث في عمر دخول المدرسة، قام والدها بتوظيفها لديه، وجعلها جزءاً من عروضه في السيرك والنوادي الليلية. وعلى الرغم من أن حياة والدها لم تكن مستقرة، فإنه أحب إيديث بعمق، وفعل ما بوسعه للعناية بها. في الخامسة عشرة من عمرها، كانت إيديث قد اكتسبت ما يكفي من حياة السيرك وعادت إلى باريس. في السادسة عشرة، حبلت من فتى يافع يعمل في توصيل الطلبات المنزلية، فأنجبت مارسيل، التي توفيت رضيعة بالتهاب السحايا. وكما هو حال أمها، فقد بدا أن لديها ضعفاً في المشاعر الأبوية. فلم يؤخذ لطفلتها سوى صورة واحدة في حياتها القصيرة، وتابعت إيديث بعدها حياتها سريعاً.
بعد وفاة الطفلة، تورطت إيديث مع قواد همجي يدعى ألبيرت. وادّعت بشكل غير مقنع، بأنها لم تعمل لديه مطلقاً كعاهرة، وإنما كانت تغني في الشارع، لتجمع النقود المعدنية التي كانت تسلمها له في نهاية اليوم. مرة أخرى تبدي إيديث هنا افتقارها للتعاطف مع الآخرين، إذ كانت مدركة جيداً لأفعال البيرت، الذي كان يضرب ويربط بالحبال أولئك النسوة اللواتي يجلبهن من البارات، لكن إيديث كانت سعيدة بمشاركته في غنائمه المكتسبة بطرق غير مشروعة، وكانت تقوم بتطعيم انتصاراته بالشامبانيا. ولم تتخلَّ عنه إلا بعد أن حوّل عنفه باتجاهها، عندما لطمها ذات مرة وصوب المسدس إلى رأسها.
تم اكتشاف موهبة إيديث عام 1935م، من قبل صاحب أحد النوادي الليلية يدعى لويس لوبلي. كانت مؤسسة لوبلي هذه تدعى "غيرني" وكان روادها من أبناء الطبقات العليا والدنيا في المجتمع على حد سواء، إسوة بالعديد من النوادي الليلية الباريسية في تلك الفترة. قام لوبلي بإقناع إيديث بالغناء في "غيرني" على الرغم من عصابيتها المفرطة، وأعطاها اسماً مستعاراً سيبقى ملازماً لها لبقية حياتها: الصبية بياف (أو الدوري الصغير، كما كانت تدعى غالبا بالإنكليزية، بالرغم من أن الترجمة الحرفية للاسم هي "الطفل الدُّوريّ") من هنا اكتسبت اسمها الفنيّ. كان تخصص بياف هو الأغاني العاطفية الراقصة، وبعد فترة قصيرة أصبحت باريس كلها تتحدث عن المتشردة صاحبة الصوت المحطِّم للقلوب. ابتدأت بإقامة صداقات مع المشاهير كالممثل موريس شوفالييه والشاعر جاك بورغيت.
في نيسان من العام 1936، قُضيَ تقريباً على مشروع إيديث الفني عندما عثر على مديرها لوبلي مقتولاً في شقته. وقد ذعرت عندما اعتُبرت مشتبهاً بها في القضية، إذ أن صيتها في مرافقة الشخصيات البغيضة أخلاقياً في المجتمع لم يكن ليساعدها في مثل هذا الوضع. عند نقطة الانحطاط هذه، توجهت إلى رجل أعمال يدعى ريمون أسو. ومع أن أسو كان متزوجاً، إلا أنه ساعد إيديث على تسوية أوضاعها مع البوليس، وبدأ معها علاقة عاصفة. سلّمته إيديث زمام أمورها الفنية، وتحت إدارته عاد نجمها للسطوع، وبعد فترة وجيزة كانت عروضها هي الأكثر رواجاً، وتحسن وضعها المادي بشكل كبير.
عام 1939، تركت إيديث أسو من أجل بول ميورس، وهو المغنّي الثري الذي قام بتقديمها إلى طبقة المجتمع الراقية الباريسية. وبينما كانت إيديث تستمتع بنمط حياتها الجديد، فإن علاقتها به لم تكن ممتعة، فكلا الطرفين كان عنيداً ومزاجياً، وكانت جدالاتهما غالباً ما تنتهي بالعنف. كانا صديقين للكاتب المسرحي جان كوكتو الذي استلهم مسرحيته "الحسناء الباردة" من علاقتهما المعقدة. وقامت إيديث بلعب دور البطولة في الإنتاج الأول للمسرحية عام 1940.
في هذه الأثناء كان الألمان يهددون بغزو البلاد. فقامت إيديث بتقديم عروضها لمساعدة الجيش الفرنسي، مع علمها بأن الأمل كان ضئيلاً. استُدعيَ ميورس للخدمة، لكن إيديث عادت للإطمئنان عندما رُفض ميورس في الجيش لأسباب طبية. جالا معاً في الأماكن غير المحتلة من فرنسا لكنهما أجبِرا في النهاية على العودة إلى باريس، إذ كان على جميع الفنانين تحت الاحتلال أن يقدموا موادهم تحت مقص الرقابة النازية. وقد تمت مضايقة البعض منهم أكثر من الآخرين، وبالنسبة للعديد من الناس فإن إيديث لم تتم مضايقتها بما يكفي. وفي الحقيقة، فإن إيديث بياف كانت تغني في كثير من الأوقات في الحفلات والولائم النازية. وعندما انتقلت للسكن في شقة تقع فوق أحد المواخير، استضافت إيديث وعناصر من غوستابو في شقتها. ادّعت لاحقاً أنها عضو في المقاومة، لكنها كصديقها موريس شوفالييه كانت موضع شك دائم. لا نعلم، من جهة أخرى، إن كانت قد ساعدت على الأقل يهودياً واحداً من معارفها ـ المؤلف الموسيقي ميشيل ايمير ـ على الهرب من فرنسا والموت.
لقد مرت إيديث بياف في مذكراتها مرور الكرام على الاحتلال، كما لو أنه أمر آخر يضاف إلى ما كان مهماً حقاً بالنسبة لها: حياتها العاطفية. ربما كانت تلك هي طريقتها في تجنب الحقائق، هذا إن كانت فعلاً قد تعاونت. لكن من المحتمل بالنسبة لشخص منشغل بنفسه كإيديث بياف، أن الحرب كانت بالنسبة لها عامل إثارة أكثر من كونها أمراً مأساوياً. كانت ترى أنه لا حاجة لتحليل الصراع مادام قد انتهى، ومادامت استعادت حياتها كما كانت قبله. وبالنسبة لشخص كان معروفاً من العامة بأنه متشرّد وبلا حوْل، فإن بياف أظهرت قدرة ملحوظة على التكيف، وقوة الإرادة ملحوظة. إذ أن "أنا" ها المتضخمة وطموحها الملتهب كانا يجعلانها تشعر بأنها قديسة.
خلال الحرب عاد والدا إيديث للظهور في حياتها. كانت سعيدة برؤية والدها، وقد استمرت بتقديم الدعم له حتى وفاته بعد عدة سنوات. وبالمقابل فقد كانت لأمها حكاية أخرى، كانت إيديث غالباً ما تستدعي عمال البار أو رجال البوليس لالتقاط المرأة السكرانة. تقول بياف: "يا لأمي البائسة.. لقد حاولت لأربع مرات حملها على تلقي العلاج، لكنها في كل مرة كانت تعود إلى رذائلها ثانية". كان موت أنيتا عام 1945 منحطاً كحياتها: وحيدة في غرفة فندق رخيص، وضحية لجرعة زائدة من المورفين.
هكذا، كانت حياتها مليئة بالمشاكل العائلية، كانت سنوات الحرب هي الأكثر إشكالية وإبداعاً بالنسبة لإيديث، وقد ألّفتْ أغنيتها الفريدة "الحياة الوردية" في منتصف فترة الإحتلال. قائمة الرجال الذين أقامت معهم بياف علاقات خلال تلك الفترة العصيبة تبدو كدفتر الهواتف الباريسي، لكن الأمور لم تكن لتصبح أفضل حالاً بالنسبة لها.
عام 1944، التقت بياف ايف مونتان، مغني الأندية الليلية المغمور. وكان رد فعلها الأول مفاجئاً، حيث تعاملت معه كأخرق، أو كمغنٍ عديم الموهبة استمع إليه الناس في زمن الحرب لأنهم لم يكن لديهم خيار آخر. أزعجها كثيراً ولعه بأغنيات رعاة البقر الأميركية. "لا أدري ما الذي يعجبكم به"، قالت إيديث لأصدقائها، "إنه يغني بشكل سيئ، ويرقص بشكل سيئ، ويفتقد الإحساس بالإيقاع. إن ذلك الرجل لا شيء". لكن المستمعين ورفاقه المغنين أحبوه على حد سواء، مما ضاعف من حنق إيديث أكثر. كتبت في مذكراتها: "كان يبدو أنه مسرور من نفسه لأنه أغضبني".
في إحدى أمسيات الفترة المتأخرة من الحرب، تم إقناع بياف من قبل بعض الأصدقاء بإعطاء مونتان فرصة أخيرة لأداء عرضه. وبالرغم من أنها لم تكن راضية كلياً عن أدائه، فإنها اعترفت على مضض بوجود مكامن كبيرة فيه للموهبة. عادت إيديث بعد ذلك ودخلت عليه في غرفة الملابس، لتقدم له اعتذارها عن الطريقة التي حطت بها من شأنه أمام الآخرين إلا أنها أخبرته بوضوح أنه مالم يغير أسلوبه في الغناء، فإنه لن يكون قادراً على الإستمرار. في الأشهر القليلة التالية، أقنعته بالتخلي عن أغنيات رعاة البقر وإلقاء النكات البلهاء. قالت له: "هناك نوع واحد فقط من الأغاني الجميلة.. إنها أغاني الحب". في البداية تفاجأ الجمهور، لكن مونتان أصبح في النهاية نجماً كبيراً في فرنسا، ومعروفاً حول العالم. كانت بياف دائماً ما تصر على أن علاقتها به كانت علاقة أفلاطونية صافية، وهذا الجزم كان معززاً بحقيقة أن مونتان لم يكن يبدي اهتماماً بها أكثر من باقي أصدقائها.
بعد الحرب، جالت إيديث في أوروبا، والولايات المتحدة وأميركا الجنوبية، وأصبحت نجمة معروفة في العالم. لاحقاً، وفي عام 1951، تلقت بياف ضربة مأسوية إثر تعرضها لحادث سير مروع، سبب لها كسوراً في ذراعها وعدد من أضلاعها. وصف لها الأطباء المورفين، وسرعان ما أصبحت مدمنة. كتبت بياف في مذكراتها: " لقد عشت، لمدة أربع سنوات كاملة، كحيوان أو كامرأة مجنونة: لم يكن هناك شيء موجود بالنسبة لي عدا تلك اللحظة التي كنت أتلقى بها الحقنة لأشعر في النهاية بذلك التأثير المريح للعقار". وقد وصفت كيف كانت في الحالات الاضطرارية تقوم بحقن نفسها من خلال التنورة أو الجوارب، في الدقائق التي تسبق صعودها إلى خشبة المسرح. وفي المرة التي قدمت بها عرضها بلا مورفين حصلت كارثة، وقام الجمهور بالتعبير عن امتعاضه بأصوات مستنكرة وهي على الخشبة.
بدأت بياف كذلك بتعاطي الكحول بإفراط لتخفيف الألم. وقد صعقت الجمهور في كازينو "رويال" عندما راحت تتمايل على المنصة وتغني بشكل مبهم ومتقطع أغنية بالكاد كانت تتذكرها. انقطع أصدقاؤها عن الشرب أمامها، وراحوا يخفون عنها زجاجات الكحول التي تجلبها، ولكن بلا فائدة. وكما تتذكر تقول: "خلال تلك الأوقات، كانت تسكن في داخلي رغبة لا فكاك منها بتدمير نفسي. لا شيء كان بإمكانه ردعي. هذه الأزمات كانت تدوم لمدة شهرين أو ثلاثة. وعندما أصل إلى قاع الهاوية، وعندما يعتقد الجميع أنني قد انتهيت، كنت أجد فجأة في نفسي الإرادة لصعود المنحدر ثانية. لكنني سرعان ما كنت أعود للإنحدار ثانية حتى أصبحت مجنونةً عملياً". وأصبحت تُشاهَد بعد فترة وجيزة جوالة في حانات باريس، تلتقط الرجال الغرباء ليلطّفوا من وحدتها. لقد كانت تلك المرحلة تمثل ذلك الصدى الحزين والمذهل لحياة أمها.
عام 1952، استقرت حالتها جزئياً عندما تزوجت من كاتب الأغاني والمؤدي جاك بيل. كان بيل كحولياً كذلك، ولم يفعل شيئاً لثنيها عن الشراب. كان كلاً منهما يمثل محرضاً للآخر على الشرب الذي كان ما إن يبدأ حتى يستمر لعدة أيام متتالية. ومع أنه لم يكن يحبها فقد منحها العلاقة الأكثر استقراراً التي عرفتها في حياتها. لكنها أثبتت مرة أخرى عدم قدرتها على الإخلاص، وطلّقته بعد سنوات قليلة.
التقت بياف زوجها الأخير، ثيو لامبوكاس، عام 1962، كانت في السابعة والأربعين من عمرها فيما كان هو في السابعة والعشرين. كان لامبوكا ضعيف الموهبة، لكنه أراد أن يصبح مغنياً، ورأى في إيديث تذكرة للعبور إلى عالم الاستعراض. ومع أنها كانت في تلك الفترة في حالة صحية سيئة، إلا أنها فعلت ما بوسعها لجعل لامبوكا مغنياً حاضراً في الساحة الفنية، فقامت بتقديمه إلى الصحافة، وألّفت عدة أغنيات من أجله. وقد صعقا فرنسا بأسرها بزواجهما الذي دام أقل من سنة منذ تعارفهما. وبدا أن والديّ لامبوكا هما الوحيدان في كل أرجاء البلاد اللذان لم يكونا منزعجين من هذا الزواج. قام ثيو بأخذها إلى منزل عائلته، حيث العائلة بأسرها رحبت بها بكرم شديد. وكانت إيديث مستاءة لدرجة أنها انفجرت بالبكاء.
في بداية العام 1963، سجلت إيديث أغنيتها الأخيرة ""رجُل برلين" L homme de Berlin، وبعدها بفترة وجيزة أخذ لامبوكا زوجته المريضة إلى منتجع كوت دازور آملا بأن تستعيد عافيتها. أصدقائها القدامى مثل ريمون أسو وجان كوكتو أحسا باقتراب النهاية، فقاما بزيارتها للمرة الأخيرة. طلبت منهما إيديث أن يصلّيا للقديسة ريتا، القديسة شفيعة القضايا الخاسرة. ثم توفيت بعد الظهر في العاشر من تشرين الأول لعام 1963.
بعد سنوات من رحيلها، وفي احتفال شعبي كبير، قام موريس شوفالييه بإزاحة الستار عن اللوح 115 المنصوب في جادة بيلفيل في باريس، مخلداً ذكرى ذلك المكان الذي لم تولد فيه إيديث بياف. لقد تم الحفاظ على الأسطورة، كما هي.