سهراب سبهري: لوحات لنقرأها.. وقصائد لنتفرج عليها







تمام التلاوي






قام الشعر الفارسي الحديث على أربعة أركان: نيما يوشيج الرائد الأول للشعر الحر, وفروغ فروخ زاد الصوت الأنثوي الدافئ والجريء, وأحمد شاملو المجدد الذي أثر أسلوبه النثري الرمزي على مجايليه ولاحقيه, وسُهْراب سِبِهْري الذي أدخل السوريالية على القصيدة ومزجها بصوفيته الخاصة..
لكن البعض لم يعتبر سهراب سبهري -الذي نتحدث عنه في هذه المقدمة الموجزة- شاعرا, بل اعتبروه رساما خلاقا وإنما يكتب شعرا عظيما, بينما اعتبره البعض الآخر شاعرا خلاقا وإنما يرسم لوحات عظيمة, وبالنظر إلى هذا الخلاف, يمكننا القول ببساطة أنه كان مبدعا حقيقيا على الضفتين, ولعل هذا ما ميزه عن الثلاثة الآخرين الذين كانوا شعراء وحسب. وبنظرة بسيطة على لوحاته نكتشف على الفور أنه كان خطاطا أيضا. لقد كان يرسم بذات التألق الذي يكتب به وبذات التألق الذي يخط به الحرف الفارسي, حتى أنك لتكاد لا تعرف نفسك إن كنت تقرأ لوحاته أم إنك تتفرج على قصائده, تلك القصائد المترفة بالصور والمجازات البلاغية, والمتدرجة من الوصف البسيط وصولا إلى التصوير السوريالي الذي يفتح نوافذ المخيلة على مكان يقع وراء الأمكنة, وعلى زمان يدور خارج الأزمنة.
ولد عام 1928م في قاشان ويقال ولد في قُمّ, ولكن الأكيد أنه عاش طفولته في قاشان وكتب عنها في قصائده. تخرج من كلية الفنون الجميلة في طهران. توظف في الدولة, وسافر وقضى أوقاتا من حياته في أمريكا وفرنسا وأفريقيا واليابان والهند وباكستان. أقام معارض عدة, وأصدر كتبا شعرية عدة, أولها "موت اللون" وأهمها "وقع خطوات الماء" و"مسافر" وآخرها "نحن لا شيء.. نحن نظرة", ثم فارق العالم على عربة سرطان الدم عام 1980م إلى خلف اللاشيء: " إن أردتم أن تأتوا إليّ فإني خلف اللاشيء..". لكن كل ما سبق لا يهمنا, ذلك أنه يتشابه مع الكثيرين الذين استطاعوا الحياة, فولدوا, وتخرجوا, وسافروا, ورسموا, ونحتوا, وأصدروا كتبا, وماتوا بسرطان الدم. ما يهمنا بالفعل هو الأمر الذي فعله سهراب ولم يستطع فعله الآخرون, ما يهمنا هو هذه المخلوقات والعوالم المتفردة التي رسمها بالحروف تارة وكتبها بالريشة تارة, ما يهمنا هو تلك الصوفية الشديدة الخصوصية لديه, والتي مزج فيها صوفيته المانوية الإيرانية ذات المنشأ الثقافي الإسلامي التي ترعرع عليها, بالصوفيات اليابانية والبوذية والهندوسية التي اكتسبها في رحلاته, فشكل مركبا سحريا يتفاعل مع الطبيعة والحياة والكون تفاعلا شديد الجمال وبالغ الخصوبة الروحية. لكنه لا يتوقف عند هذا وحسب, بل يضيف عليه تلك المسحة اللونية واللغوية السوريالية, لينتج في النهاية تلك اللوحات السمعية والقصائد البصرية التي سحرت إيران والعالم, فتداولتها الأيدي, وطبعتها المطابع مرات عدة, وترجمتها الثقافات إلى لغاتها. وهو اليوم معروف لدى الإيرانيين لدرجة يكفي معها أن تقول: سهراب, هكذا وبدون ذكر الكنية, حتى يعرف الآخرون من هو المقصود.
ليس هذا فقط ما ميز حياته, فهناك أمر آخر أيضا, لا يستطيع فعله سوى أولئك الذين توحدت أرواحهم بالجمال وبالكون وبالعالم إلى درجة لم يعودوا بعدها قادرين على التواصل الحسي مع مفردات الحياة. فصحيح أن سهراب أقام في بلاد عدة, لكن أغلب حياته عاشها في قاشان مسقط رأسه, ولم تكن حياته في الدول الأخرى سوى عبور عابر استطاع من خلاله النفاذ إلى عمق ثقافاتها بأقصر وقت ممكن. وحياته في قاشان كانت شديدة التفرد والانعزال لدرجة اتهامه في وقتها من قبل النقاد بالتعالي عن الناس والمجتمع ومهاجمته لدرجة كادت أن تكسر آنية وحدته الخزفية:
"إن جئتم في طلبي
فتعالوا مهلا على رؤوس أصابعكم
لئلا تتكسر آنية وحدتي الخزفية الرقيقة..
[1]"
ومع أن قصائده كانت نثرية, إلا أنها كانت شديدة الإيقاع, وعالية الموسيقى, الأمرين الذين استقتهما لغته على الأرجح من إيقاع الطبيعة, وموسيقى الكون. فكانت جمله قابلة للتلاوة أكثر من قابليتها للقراءة النثرية, وكانت كلماته متناغمة الأحرف ومتناسقة التشكيل, وغنية بالجناسات والسجع, لدرجة تحسب قصائده معها موزونة عروضيا وما هي بموزونة.
أما في لوحاته فقد رسم الوزّة, ورسم العصفور, ورسم التفاحة والرمانة, ورسم الشجرة والنهر, والقارب والسمكة, ورسم الحروف والجمل الشعرية, ولكنه إذا دققنا في الأمر سنرى أنه لم يرسم شيئا منها, وإنما رسم الإنسان في أعلى صور تماهيه مع الطبيعة, ولون لوحاته بالحب الإلهي الذي تمتلئ به قوارير ألوانه وأجواف قلبه الأربعة.
بالمصادفة البحتة تعرفت على هذا الشاعر, وبمصادفة هي الأشد غرابة عثرت, أثناء العمل على هذه المادة عند أحد الأصدقاء, على قرص كمبيوتري يتضمن مختارات سمعية من قصائد هذا الشاعر عنوانها "در كلستانه", بصوت أحمد رضا أحمدي, ومرافقة موسيقية من الملحن هوشنك كامكار. حتى هذا الصديق لم يكن يعلم بوجود هذا القرص المنسيّ, ولكن ما لفت نظري إليه هو صورة الغلاف التي تشبه صورة سهراب سبهري. دهشتي الأولى كانت عندما اقتربت وقرأت الكلام الموجود على الغلاف, أما دهشتي الثانية فكانت عندما استمعت إلى هذا القرص. سحر خالص تمتزج فيه الموسيقى مع الشعر, أكملت على إيقاعه كتابة هذه المقدمة التي أرجو أن تكون وافية للتعريف بهذا المبدع إلى القارئ العربي.
أقول أخيرا, إنه بالرغم من التقارب التاريخي بين الثقافتين العربية والفارسية, فإنه مما يدعو للاستغراب أن معرفتي بهذا الشاعر كانت عن طريق الإنكليزية, كما إن المصادر الإنكليزية التي توفرت حول هذا الشاعر هي أكثر وأغنى بكثير من المصادر العربية, والقصائد التي أوردها فيما يلي قمت بترجمتها عن الإنجليزية, مرتكبا بذلك خيانة مضاعفة للغة الشعرية, إنما آملا منها أن تكون خيانة جميلة وممتعة.

* * *


النداء البدائي



أين حذائي؟
ومن كان ذلك الذي ينادونه: سهراب؟!
لقد كان صوتا حميما كلمسة الريح على ورقة الشجرة.
أمي نائمة
ومانوشهر وبارفانيه, وربما جميع أهل المدينة كذلك.

هذا ليل حزيران يمر برهافة على الثواني وكأنه قصيدة رثاء
فيما نسمة باردة آتية من زاوية اللحاف تكنس نعاسي
..إنها أحاسيس الفراق
ووسادتي ممتلئة بأغنية من ريش السنونو.
سينبلج الفجر
وسترحل السماء بهذه الكأس من الماء..

عليّ أن أغادر هذه الليلة
أنا الذي كلّم الناس في هذي البلاد من أوسع النوافذ
فلم أسمع أية كلمة تليق بزماني
ولم أر عينا عاشقة تحدق في القاع
لم يفتتن أحد بمنظر الحديقة
ولم يأخذ أحد طائرا ما بجدية إلى بستان ما..
إنني مكتئب كغمامة.

فيما مضى.. رأيت "حوري" –فتاة الجيران مكتملة النضج-
تدرس اللاهوت عند جذع شجرة الدردار الأشد ندرة على وجه الأرض
وكان هنالك أشياء أخرى
كانت لحظات من السموّ
رأيت مثلا شاعرة
مأخوذة بمنظر الأفق
كانت السماء تستلقي في عينيها
وكانت ليلة خارجة عن باقي الليالي
سألني رجل:
كم من الوقت سوف يمر حتى تنضج الكروم؟..

هذه الليلة عليّ أن أغادر
عليّ أن أحمل حقيبة كبيرة بما يكفي لتسع قميص وحدتي
وأن أمشي إلى حيث يمكن أن أرى شجر الأغاني الملحمية
أمشي باتجاه مدى السكون العظيم
الذي لا يكف عن مناداتي.

..شخص ما يناديني ثانية: سهراب!
أين حذائي؟؟


* * *



رسالة السمكة



ذهبتُ إلى البركة
آملا أن أرى انعكاس وحدتي في الماء
لكن لم يكن ثمة ماء في البركة..

قالت لي الأسماك:
ليس الذنب ذنب الشجرة على الإطلاق
لكنها ظهيرة الصيف الملتهب
فيما مضى, كان ولد المياه البراق يستلقي على حواف البركة
لكن نسر الشمس انقض عليه ورفعه عالياً عالياً في الفضاء
إنه الجحيم الذي حرمنا من الحصول على ذرة أوكسجين من الماء
وإنه البريق الذي تركنا مجتمعين مع بعضها كالرقائق.
وبدلا من هذا الضوء العظيم
كان لنا انعكاس ذلك الأحمر القرنفلي في الماء
حيث كان القلب يخفق كلما عصفت الريح خلف الطبقات المهملة
وكانت عيوننا نافذة للاعتراف بالجنة..
إن كنت ترى الله في ارتعاشات الحديقة
فابذل جهدك وأخبره أن "بركة الأسماك جافة".

..كانت الريح ذاهبة لزيارة الشجرة
وكنتُ ذاهبا لزيارة الله..
* * *



وقع خطوات الماء



الحياة إرث من السعادة
الحياة شراع عظيم كالموت
الحياة قفزة بحجم الحب
الحياة ليست أي شيء كان
إلا أننا نضعها على موقد العادات
وننساها..

ليس مهما أين أنا الآن
السماء دوما لي
النوافذ, الأفكار, الهواء, الحب,
الأرض, كلها لي
لماذا إذن تصبح قضية كبيرة
إن نبت فطر الحنين في وقت من الأوقات؟

لنخلع ملابسنا
فليس الماء سوى خطوة نحو البعيد
لنأخذ سلّة ولنملأها
بكل ما هو أخضر وأحمر

ليس علينا أن ندرك
سر الأزهار
لكن ربما علينا السباحة في تعويذة الأزهار
أو ربما علينا البحث عن أغنية الحقيقة
ما بين عظمة الصباح
وبين هذا القرن من الزمان..

* * *
[1] شاعر من أهل كاشان, غسان حمدان, مجلة المدى العدد 41.


نشرت في ملحق نوافذ -جريدة المستقبل اللبنانية- 3 حزيران 2007


ليست هناك تعليقات: