أودن يساعد جاسوساً سوفييتياً على الهرب من بريطانيا




كاهال ميلمو
ترجمة: تمام تلاوي



ويستان هيو أودن واحد من الشعراء الأكثر شعبية في بريطانيا, فهو الشاعر الذي كتب أشعاراً خالدة بدءاً من المرثيات الجنائزية وحتى البريد الليلي, لكن ما ليس معروفاً عنه جيداً أنه قد لعب دوراً مشبوهاً وغير مرغوب به أثناء الحرب الباردة مع شخصيات بارزة من الجواسيس السوفييت.
ملفات سرية تظهر اليوم كيف أن هذا الكاتب الذي كان محبوباً ومكروهاً في آن معا خلال حياته من قبل المؤسستين الأدبية والسياسية, قد تم استجوابه بشكل كثيف حول اختفاء غاي بروغريس -أحد الأعضاء الخمسة في حلقة جواسيس كامبريدج- الشخص المشهور بخلاعته ومجونه والذي سرب أسراراً ومفاتيح عديدة إلى الاتحاد السوفييتي.
كانت وحدة المخابرات العسكرية البريطانية MI5 والإف بي آي قد أمرتا باستجواب هذا الشاعر, إثر معلومات عن أن بورغيس, الذي هرب من بريطانيا في أيار عام 1951 مع صديقه الديبلوماسي والعميل المزدوج دونالد ماكلين, كان قد حاول بإلحاح الاتصال بأودن عشية يوم هربه. ماكلين, الذي امتلك معلومات عن أبحاث القنبلة الذرية, وبورغيس استقلا زورقاً وعبرا به إلى فرنسا في الخامس والعشرين من أيار قبل أن يغادرا بشكل سري جوّاً إلى موسكو. كان قد تم الإلماح إليهما من قبل زميلهما جاسوس كامبريدج كيم فيلبي الذي كان يعمل لحساب المخابرات العسكرية البريطانية في واشنطن, وكاد أن يتم افتضاح أمرهما.
إختفاء الرجلين أدى إلى نشوء حالة من الذعر في أوساط الحكومة البريطانية والمرافق الأمنية, مولدا شرارة البحث عنهما عبر أوربا, إذ أصبح أودن واحداً من هؤلاء المشتبه بهم بمساعدة بورغيس, ربما, عن طريق إيوائه في منزله بإيطاليا الذي كان يقضي به أيام عطلاته. نُشرت هذه الملفات في الأرشيف الوطني في كيو غرب لندن, وأظهرت كيف قام موظفوا المخابرات العسكرية بالاشتباء بأودن عندما ناور بشكل متعمد مدعياً أنه لا يتذكر شيئا عن المكالمة التلفونية التي أجراها بورغيس معه.
وبعد استشارة الإف بي آي طلبت المخابرات العسكرية البريطانية من شعبة الأمن الإيطالية مراقبة منزل عطلاته في جزيرة إيشيا في باي نابلس وإعلانه كشخص مطلوب للاستجواب. وقد ازدادت شكوكهم حينما وصل أودن إلى فيلته هناك بعد ثلاثة أيام من اختفاء بورغيس. ربما كان لدى الشاعر أسبابه المقنعة كي يتجنب السلطات البريطانية. إذ كان قد اتهم بالخيانة عندما هاجر إلى الولايات المتحدة قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بفترة قصيرة مع شريكه في الأدب –وعشيقه أحيانا- كريستوفر إيشروود. كان أودن قد تعرف على بورغيس منذ ثلاثينات القرن العشرين وكانا يتقابلان بشكل مطرد بعدما أرسِل بورغيس كديبلوماسي إلى السفارة البريطانية في واشنطن عام 1947.
ملف المخابرات العسكرية البريطانية أظهر أن أودن كان يعتبر من قبل الهيئة الأمنية كواحد من عصبة المثقفين الشيوعيين البريطانيين كذلك, ولو أن ذلك ذو انعكاس سياسي ضئيل. في واحدة من مذكراتMI5 المعلنة عام 1938: "كان و.هـ. أودن موصوفا في رسالة إلى MI6 (وحدة المخابرات العسكرية البريطانية الخارجية) على أنه (شاعر, وفي بعض الأوقات شيوعي) وأن سيسل داي لويس مثقف شيوعي ذو مرتبة فكرية ونموذجية عالية, وأن هاري بوليت (زعيم الحزب الشيوعي في بريطانيا العظمى) ليس ذا قيمة حقيقية للحزب كما كان معتقداً.
بورغيس المعروف بإدمانه على الشراب كان مضطرباً بشدة خلال أحاديثه إلى أودن ولا سيما في اتصاله في العشرين من أيار, وفقا للملفات. أظهر الملف أن سبيندر أخبر البوليس أنه قد أوصل رسالة بورغيس إلى أودن. لكن أودن نفى بدوره معرفته بأي شيء حيال الاتصالات الهاتفية, الأمر الذي زاد من اشتباه وحدة الأمن بمسؤوليته عن اختفاء بورغيس بطريقة أو بأخرى.
وباستخدام طريقة اتصال لم يعلن عنها قام أحد موظفي MI5 بترتيب مقابلة مع أودن حول علاقته ببورغيس. وبحسب الملف: "كانت مهمتنا أخذ تأريخ مفصل لعلاقة أودن ببورغيس, وقائمة بأصدقائهما المشتركين, وكذلك بالطبع رأي أودن حول ما إذا كان لظاهر صداقتهما أي صلة مهمة قد تتعلق باختفائه."
ثم أضاف المصدر بشكل مبطن: "إن قيمة هذه المقابلة قد تتأتى من اعتمادها على ما سيقوله أودن بنفس القدر من اعتمادها على ما لن يقوله". ومع أن بورغيس كان يبدو أقل أهمية بالنسبة للكرملين من فيلبي وماكلين, إلا أن اختفائه كان يمثل الإخطار الأول للوحدات الأمنية البريطانية إلى أنها مخترقة من قبل حلقة من الجواسيس السوفييت. آلاف الوثائق تم نقلها إلى أيدي السوفييت عن طريق هؤلاء الرجال, ويبدو أنه قد تم إصدار أمر إلى بورغيس بمرافقة ماكلين إلى موسكو بسبب الخوف من رعونته التي قد تؤدي إلى افتضاخ أمر فيلبي, العميل الذي استمر بالعمل إلى عقد آخر من السنوات بعدها.
ومع أن أودن تفادى المثول للتحقيق أمام MI5 بسفره من إيطاليا إلى أمريكا, إلا أن الملفات أظهرت أن الشاعر غيّر روايته لاحقاً إلى مصدر آخر (غير مُسمّى) حول عدم تلقيه خبر اتصالات بورغيس.
في مذكرة من MI5 إلى MI6 تقول: "اعترف أودن على مضض أن سبندر ربما كان محقاً في أنه أخبر أودن حول اتصالات بورغيس. صحيح أن أودن كان يتناول الكحول بإفراط, لكن (المصدر غير المسمى) يشعر أن أودن ربما كان يكذب عندما صرح في وقت سابق أنه لا يتذكر أي شيء حول اتصالات بورغيس".
وبالرغم من أنه تم رصد وتسجيل كل الزيارات إلى كوخ الشاعر خلال الصيف, إلا أن MI5 قررت أنه من المستحيل إقامة الدليل على العلاقة بين أودن وهروب بورغيس.
من جهته قال أودن أن بورغيس ربما حاول الاتصال به فقط من أجل الاتفاق على زيارة إلى إيطاليا كان الرجلان قد ناقشاها سابقاً قبل عدة شهور.


حياة أودن:
كان و.هـ. أودن يمثل الشاعر حامل المصباح لمجموعة من الكتاب البريطانيين المعروفين باسم "شعراء الثلاثينات". وكان من الأعضاء الرئيسيين الآخرين في المجموعة كلٌّ من لويس ماكنيس وستيفن سبيندر وسيسل داي لويس وكلهم اشتركوا مع أودن في ميولهم وأرائهم اليسارية.
ولد أودن في يورك عام 1907, وتأثر بتوماس هاردي وروبرت فروست وجيرارد مانلي هوبكينز, وبدأ بصناعة اسمه في اوكسفورد حيث التقى سبيندر وكريستوفر ايشروود الكاتب الذي سيكون رفيق دربه. نشر أودن أكثر من 400 قصيدة وقد أثار الإعجاب ببراعته الفنية وقدرته على الكتابة بأشكال متعددة.
وكالعديد من الشبان في جيله اعتنق الشيوعية كبديل عن صعود الفاشية وخدم في الحرب الأهلية الإسبانية, لكن تم انتقاده لتركه انجلترا عام 1939. سافر مع ايشروود إلى الولايات المتحدة حيث التقى أخيراً بشريكه الذي سيرافقه طويلاً شيستر كولمان, وأصبح مواطناً أمريكياً. في سنواته اللاحقة توزعت أوقاته بين نيويورك والنمسا حيث توفي في فيينا عام 1973.
أصبح هنالك اهتمام متزايد بأشعاره حول العالم في السنوات الأخيرة, وقد بلغ ذروته في السنة الماضية خلال مئوية ولادته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في جريدة الغاوون - بيروت

ليست هناك تعليقات: