برنارد فرانك
ترجمة: تمام التلاوي
مقدمة المترجم:
الدراسات العربية التي عالجت الشعر العبري وقاربت أدبه كثيرة عموما في عالمنا العربي, ولكنها كانت في أغلبها تقرأه من زاوية واحدة دائما, هي زاوية (شعر العدو), وقد حاولت دائما رصد الذات العربية ورصد الصراع حول الأرض في هذا الأدب, أما الدراسات التي تناولته من وجهة نظر محايدة فقد كانت نادرة جدا أو معدومة, ولم يجرؤ أحد على مقاربة هذا الأدب كأدب موجود في العالم شأنه شأن أي أدب آخر, لا لشيء إلا للتعرف عليه. وطبعا معهم الحق في ذلك, ولهم مبرراتهم الدامغة ضمن إطار الحساسية الشديدة في الموقف السياسي بين العرب واليهود من جهة, وبسبب خوفهم من الاتهام بالعمالة والتخوين والترويج للعدو من جهة أخرى.
لا شك في أن الظرف التاريخي الحالي لا يسمح لنا أن نقرأ الأدب العبري قراءة أدبية محايدة كأدب عالمي له جمالياته الأدبية أيضا, لكن ألا يسمح لنا على الأقل أن نلقي على حركتهم الأدبية الحديثة نظرة محايدة.
هذا المقال كتبه برنارد فرانك وهو شاعر يهودي يعيش في أمريكا ويكتب الشعر العبري, وهو يشرح بإيجاز مسيرة الشعر العبري الحديث, و سوف نطلع من خلاله على هذه الحركة الشعرية بعيون شعراء العبرية لا بعيوننا, وبرؤيتهم الثقافية لا برؤيتنا, محاولة منا لمعرفة كيف ينظرون إلى أدبهم وإلى أنفسهم, خصوصا وأننا نعلم تماما كيف ننظر نحن إلى ذلك. أما لماذا الشعر العبري بالذات؟ يسألني سائل, فأجيبه ببساطة شديدة: لأنه الشعر العبري بالذات, ولأنه يخصني أكثر من الشعر النمساوي والبرتغالي والهندي والياباني لأسباب عديدة: فالثقافة العبرية هي الأقرب إلى الثقافة العربية ليس جغرافيا وحسب بل دينيا أيضا وفكريا وتاريخيا. ولأن اللغتان العبرية والعربية لهما لغة أم واحدة, والشعر هو وليد اللغة ووالدها في آن. وأخيرا لأنه شعر العدو وحركته الثقافية التي ينبغي لنا أن نلقي نظرة عليها ليس فقط من منظار (اعرف عدوك) أو (اعرف كيف يعرفك عدوك), وإنما أيضا (اعرف كيف يعرف عدوك نفسه) وكيف يفهم لغته كأداة فنية ومعرفية, وكيف يستخدمها لتصوير ذاته الإنسانية في شعره وأدبياته على امتداد حراكه الثقافي والشعري.
في هذا المقال يعتبر فرانك أن الحركة الشعرية العبرية الحديثة التي بدأت منذ قرن تقريبا, أي مواكبة لحركات الحداثة في الغرب, كانت بريادة الشاعر خاييم نيكمان بياليك, وليس سواه كما تقول دراسات أدبية أخرى, وهو يدافع عن رأيه ويسرد مبرراته لهذا الاعتبار. كما يشرح لنا بطريقة سلسة ومدعمة بالشواهد المراحل العديدة التي مر بها هذا الشعر, وسنجد أنه في أحد مراحله تخلى عن الأيديولوجيا, أو الأدلجة الشعرية, عندما برز جيل شعري كامل عرف باسم جيل الانسحاب من اليقينية أو العقائدية, هذا الجيل الذي تميز شعراءه بالميل إلى الشك بفكرة الأرض والميعاد, وانحازوا إلى الإنسان وإلى القصيدة الوجدانية التي تنبش في العمق الإنساني بدلا من النظر إلى المحيط, وتبحث في وجودية الذات بدلا من المسلمات الفكرية الجاهزة حول الأرض والمصير. كما سنلاحظ من جهة أخرى ضمن سياق المقال كيف يسمي كاتبه الشعراء اليهود الذين عاشوا في فلسطين أو قدموا إليها من أوروبا بـ (الشعراء الفلسطينيين), وكيف يسمي فلسطين نفسها بـ (الأرض المقدسة), وكيف يشبه (الجاسوس) العربي بـ (السنجاب), وهذه بلا شك مصطلحات كفيلة باستفزاز أشدنا حيادية وموضوعية وأكثرنا برودة. وسنرى أيضا كيف أن أغلب موجات الشعر العبري الحديث, على اختلاف مراحلها وشعرائها واختلاف لغاتهم الشعرية وعلاقتها باللغة التوراتية, نظرت إلى اليهودي كضحية مطلقة سواء بين الأوروبيين أو بين العرب عموما والفلسطينيين تحديدا. لكن مع كل هذا لا شيء سيمنعنا من أن نقرأ دراساتهم حول أدبهم وأن نعرف شيئا عن حركة الشعر العبري الحديث كجزء من اطلاعنا على حركة الشعر الحديث لبقية الثقافات واللغات الحية.
الاتجاهات:
إذا اعتبرنا كالعادة أن خاييم نيكمان بياليك -الذي نشر قصيدته الأولى (إلى طائر) في أوديسا عام 1892- يمثل بداية الشعر العبري الحديث, فإن هذا الشعر يكون قد اجتاز للتو مئويته الأولى. هذه الفترة الوجيزة التي أظهرت حتى الآن عدة موجات جديدة صعودا وهبوطا.
خلال بدايات الأربعينات من القرن العشرين, في السقيفة المصنوعة من الزنك التي خدمت كبديل مؤقت للحجرة الدراسية في راماتايم, كانت تقرأ علينا وبشكل يومي قصائد من تاناش أولا ثم من بياليك, وبالنسبة لنا كيافعين فقد كان هذا ببساطة هو الشعر العبري. ولكن تخيلوا كم كانت دهشتي عندما شرعت عام 1980 بالإشراف على تحرير ملف حول الشعر العبري الحديث لمجلة ايوا الجامعية وفوجئت أن بياليك كان خارج نطاق البحث.. لم أصدق!
كيف ولماذا, خُلع عن عرشه هذا الشاعر الوطني الكبير (1873-1934)؟ ربما قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب أن نبحث أولا عما كان وراء اعتلائه هذا العرش. وهو بالطبع حقيقة أن الكتابة بالعبري التي أنعش استخدامها كان متفردا بها تقريبا في هذه الثقافة الحية. بالإضافة لذلك كانت حقيقة شهوده المذابح الروسية ومعاناة رفاقه اليهود التي أدت به إلى كتابة أغاني ملتهبة العاطفة:
تعال معي إلى مدينة المذبحة, تعال ادخل إلى ساحاتها, شاهد بعينيك, وتلمس بيديك -على السياج والأشجار, على الصخور وعلى الجدران اللزجة- الدم الحي المتخثر, والأدمغة المتفحمة للموتى.
قصيدة (في مدينة المذبحة)
[1]
وحتى عندما وظف ذاكرته الشخصية فقد أنشد بياليك بطاقة عظيمة كما نرى في الأسطر التي في مطلع قصيدته (أبي):
غريبة كانت طريقة حياتي وعجيبة كانت أحوالها,
بين البوابة الجرداء والعربة الملوثة هي دورة أيامي: من الإنغماس بالتعبد إلى الفساد, ومن الطهارة إلى القذارة
نرى الرعب وما يلاحظه الطفل في الخان المليء بالمخبولين غير اليهود
الرزق الأبوي, والكرب التالي عندما يغادر حضن الله كل صباح,
الربيع التام لحياته, عندما يضع جانبا كساءه المقدس: التاليت والتوتافوت[2] ..
لقد قام بياليك -بشكل لا مناص منه ربما- بالانهماك بعمله, وعكَس كلا من الطاقة والحساسية الروسية الخاصة التي انتقدها بقسوة. وقد كان النظير لعمله متمثلا في النمط العام الفعال من الشعر عند حابيما الشاعر الشهير وعند النجم حناه روبينا وخصوصا في الإيماء الرفيع والصوت المفخم.
وإن هذه التقنية هي التي حولت الجيل الجديد ليقف ضد بياليك. أي جيل الفترة الفليسطينية الذين دعوا أحيانا بشعراء المدن, بقيادة أبراهام شلونسكي الذي وجد أعمال بياليك ذات مرجعية أخلاقية شديدة, ولغتها متصلة بقوة بلغة التوراة, فروحهم التي طرأ عليها النزوع إلى الاستقلالية والحرية لم تقبل لقلوبهم أن تلبس رداءا موحدا, ولم تقبل ذهنية اليهودي كضحية, على الرغم من أن قصائد بياليك في عدة مرات قرّعت الجماعات الورعة على استسلاميتها. وقد كان تقييم شلونسكي لشعر بياليك في 1931 أنه شعر قديم ومحافظ.
لقد دافعت المدرسة الحديثة عن الأسلوب ذو النزوع الغربي أكثر من أسلوب لغة بياليك الصافية ذات الجذور التوراتية, ففضلت الرقة في العاطفة والرموز الميالة للوضوح والنصوص ذات المسحة الغربية على العواطف والانفعالات العائدة إلى شرق أوروبا. كما أخذت بعين الاعتبار مدرسة الزراعيين التي نشأت في بدايات القرن العشرين, والشعراء الاجتماعيين الذين كتبوا أغاني وطنية واحتفوا بالروح الريادية. القصائد الأكثر تذكرا من هؤلاء هي قصائد راحيل بلوشتين التي لحنت وأصبحت أغنيات شعبية. فقد فضل الشعراء المدنيين مدنيتها وذلك القلق واليأس الذي يأتي معها.
في قصيدة (هذه الليلة) لناتان الترمان (1910-1970) وصف لعلاقة حب تفشل في ظل مشهد مديني:
هذه الليلة. التوتر في هذه الجدران. صوت يستيقظ ويأمر. صوت يستجيب وينقطع. عناق فاتر. ووميض ابتسامة متكلفة. الحياة والموت في شمعة. ثم القمر الذي يتقنع بأقنعة من التحديق الجليدي للشمع, النافذة, مشهد الطبيعة, وبناء السوق الهاجع, والمشلول بضربة من الأيدي الممتدة الوحشية للمركبات والروافع.
يأخذ شلونسكي (1900-1973) اليأس المدني خطوة أبعد في قصيدته (خطبة جون دو حول جيرانه):
لبناء شقتي خمس حكايات.. لكن بالنسبة إلى تلك التي قفزت من النافذة المقابلة, فإن ثلاث من تلك الحكايات كانت كافية جدا..
كما أن ليه غولدبيرغ (1911-1970) ربطت القلق المديني مع العجز المصاحب للتقدم بالسن في قصيدة (حول مخاطر التدخين):
صباح ممطر. لا تنهض. ولا تدخن أيضا. لا تقرأ كثيرا. أليس هذا ربيعا غريبا, أليس ربيعا غريبا! وكأن العتمة في الصباح..
ولأن لكل موجة حركة مضادة, فقد تم عزل هؤلاء الشعراء الفلسطينيين من قبل الجيل الأصغر بقيادة ناتان زاخ, هذا الجيل المتضمن لمواهب متنوعة مثل يهودا عميحاي, دان باجيس, داليا رابيكوفيتش, وديفيد أفيدان. والمشتركين ببغضهم للمدرسة الأقدم أكثر من أي عقيدة فنية لهم, فقد ابتكر هؤلاء الشعراء ما يسمى بالانسحاب من اليقينية, واستحدثوا استخدام السخرية, وكلا الأمرين يمكن أن تجدهما في قصيدة عميحاي (أبي):
وبعينه جمع الأموات الذين لا أسماء لهم, عدد وفير منهم جمعهم باسمي, حيث أستطيع تمييزهم في نظرته الخاطفة وأحبهم
الموت لا يكون هكذا.. بالخوف القاتل...
لقد ثبت عينيه معهم وما زال يخطئ قائلا: لكل معاركي أنا متيقظ.
كما تم دمج السريالية في هذه الفترة مع العقلانية (التفكيرية) كما في قصيدة باجيس (الفيل):
إنه يتخطى السادس عشرة بطريقة مدهشة كساعة اليد المضبوطة, ويعبر أربعة بكل قدم, كما ينزلق عليها بسهولة بواسطة المزاليج متخلصا من ضخامته الفيلية.
وفي أعمال رابيكوفيتش مشاهد خاصة من اللاوعي تمضي يدا بيد مع النسوية كما في قصيدتها (الفستان):
ماذا سيجري لك, قالت, لقد فصلوا لك فستانا براقا.
لقد فصلوا لي فستانا براقا, قلتُ, أعرف هذا.
إذن ماذا تنتظرين, قالت, كوني حذرة, ألا تعلمين ماذا يعني الفستان البراق؟
أعرف, قلت, لكني لن أكون حذرة. ذلك الأريج القديم يربك عقلانيتي. وقلت لها: ليس لأحد حاجة في أن ينسجم معي فأنا لا أضع الحمقى في المآسي الإغريقية.
ولكن العدالة الشعرية أخذت طريقها, فهؤلاء الذين عزلوا غيرهم تم عزلهم كذلك, والموجة التالية من الشعراء الأصغر, ومنهم مائير فيزلتير وبنخاس صادح ويونا فالاخ, ويائير هورفيتس تبنوا النمط الذي يتماشى مع النظر إلى الخارج بدلا من الداخل. وتم اقتراح أن هؤلاء الشعراء قد أكملوا الدائرة الفنية لبياليك, وطالما أن دوائر التاريخ لا تنغلق أبدا فإنهم في قد شكلوا بذلك حلزونا. وإن موقف (الأغراض الرجيمة) للشعراء الأصغر هؤلاء قد تصالح وإن بصعوبة مع لغة بياليك:
القذيفة ترسم ضوءها في السماء, وتقطر دفئا نقيا من الضوء, ثمارها الاحتفالية تضرم الزرقة في بركتها خارجة من عتمة البذور. أحلم بصخرة محطمة يجري على وجهها الماء, لأرى الجداول في ليل نقي.
في هذه القصيدة لهورفيتس ( في ليل نقي) يتغلب الأسلوب والصورة على المعنى. وفي قصيدة ويستلير (الحذر يقي من النكبات) فإن الأسلوب يندمج مع سياسة الالتزام:
بحذر اجتمع وزير الخارجية مع وزير الدفاع
بحذر أصدر وزير الدفاع أوامره إلى قائد الطيران
بحذر أبعد التلاميذ دراجاتهم من بين الغيوم
بحذر ناور بائع الخضار بين الفواكه والعسل
أما القصيدة بعد خمس وعشرين خطا من الحذر المنسق فقد أنهت بقوة هدوءا غريبا كما لم نعرفه من عصور.
المواضيع:
طالما كانت هناك حركات عديدة قصيرة متعاقبة فإنها غالبا سوف تنهار كفقاعة الخبز عندما يدخل من الخارج عبر باب الفرن هواء بارد. ويمكننا أن نرى الآن أن القصائد التي عالجت الموضوع ذاته تغلبت في أغلب الأوقات على تقلبات الموضات الشعرية العابرة. وهي لم تكن فقط الأصوات الحزينة التي صورت الهلوكوست غالبا وإنما أيضا كانت الصدى لاستجابة بياليك العميقة للمذابح.
يوري زفاي غرينبيرغ (1894- ....) وصف إبادة الشعب اليهودي الأوربي من خلال صورة عنيفة:
حتى الطيور نفسها لا تدري من قص لها جناحها. انظر ولاحظ, فيما هي تحلق في الهواء تميل إلى جانب واحد..
ولا حتى قطرات الدم تدري ولا الذاكرة متى ستصنع الطيور رحلة عادلة بزوج من الأجنحة.
قصيدة: (القص)
وإليكم أبا كوفنر (1918- ....)
كان أبونا, شاكرا لله, يأخذ خبزه من نفس الفرن لأربعين سنة. لم يكن ليتخيل أبدا أن أناسا سالمين قد يقضون في الأفران وفي هذا العالم, توكل على الله وتابع السير..
قصيدة: (أختي تجلس مبتسمة)[3]
و إتمار يا اوز كيست (1934- .... ):
في قطار سكة الحديد, المشهد مأخوذ بالرعب, ويقلب مرتبكا صفحاته: الشجر, السماء, الأنفاق...
وفي القطار, يقوم الحارس ضاحكا بقطف رأس بهيمة نابت على عنقها.
قصيدة: (المحاكمة بالنار)
على الرغم من أن كوفنر أكثر مباشرة و يا اوز كيست أكثر رمزية فإن كلا الصوتين اشتركا في الألم والغضب:
شعراء متنوعون اشتركوا أيضا في تلك النبرة العميقة من الحب لمشاهد الطبيعة الإسرائيلية:
الشمس لا تنشر إلا ياسمينها, الحجارة ليس لها صوت سوى صوت نبض القلب, الغروب مكتس بالبرتقالي الشفيف, والرمال ليست سوى الشفاه التي تقـبّـل.
ليه غولدبيرغ, قصيدة: (شمسين نيسان)
ويقول هورفيتز أيضا (1941- ....) في قصيدته (لأجل حبيبتي التي تنهض باكرا):
المساء الصامت الصامت يمر عبر الشجرة والقلب. الأرض تسلم وجهها إلى بركة السماء, وزفير الرياح البارد ينثر العتمة في الأوراق الملتفة, ويعلن للشجيرات المشتاقة عن قدوم المطر إلى الجذور الظمآنة.
بالرغم من إيقاعات غولدبيرغ, وتوظيف المجازات الواضحة, فإن هورفيتز يعتمد على الإيقاع بطريقة أكثر صخبا, ويضفي لمسة من السوريالية, وهما يتشاركان بعاطفتهما تجاه الأرض. وهذه العاطفة ليست أكثر بروزا منها بالنسبة للشعراء الذين يكتبون من الخارج:
يقول موشيه دور (1932- .... ) في (طيور البلشون قد عادت)[4]:
طيور البلشون قد عادت إلى بحيرة هولا, إلى أدغال القصب وجداول المياه التي تحافظ على الإنسياب بهدوء بالرغم من شبكة مصارف المياه والأحلام. مترقبي الطيور يقولون إن طيور المستنقعات النادرة هي هناك الآن ويمكن مشاهدتها.
أما هنا فإن الأشجار المعدنية تتجمد في الظلال الباردة للأبيض والرمادي...
إن حب الوطن وذكريات الماضي البشع تتوحد بقوة في القصيدة عندما يتحدث الشعراء عن الصراع الإسرائيلي العربي والحرب. ففي قصيدة (قطر القنبلة كان ثلاثين سنتمترا) يصبح صوت أميخاي نثريا عندما يثرثر بيانا حول النتائج:
.. بلغ قطر انفجارها حوالي سبعة أمتار وقد قُتل بها أربعة وأصيب إحدى عشر.
لا لن أشير حتى إلى صراخ الأيتام الذي وصل إلى عرش الله واندفع من هناك مشكلا دوائر من اللا إيمان واللا نهاية.
.. (لا لن أشير حتى)؟ لكنه يفعل ذلك بالطبع ويضرب ضربته في بيت القصيد بطريقة أكثر براعة, لكنها ليست أقل مرارة من صرخة بياليك الأولى في قصيدته (عن المذبحة):
آه أيتها السماوات, تشفعي لي! إن كان هنالك رب يحشر الناس فيك فقد فاته إدراكي ولذا عليك أن تصلي لأجلي!.
أما شعر الحب فقد كان متجاوزا بالطبع لكل الاتجاهات الشعرية والأزمنة, مع أنه يميل إلى الانقسام على طول الخط الفاصل بين الجنسين. إليكم أيستر راب (1899-....):
ذراعاي ممتدان إليك, إلى شرارة الضوء في نظرتك الخاطفة, إلى ومض أسنانك على جسدي الواهن الأصفر..
قصيدة: (ذراعاي ممتدتان إليك).
وكذلك داليا رابيكوفيتش(1936- ....):
في تلك الليلة لم أكن سوى دمية أدار إلى اليمين واليسار, وإلى كل اتجاه, وأكب على وجهي, فأتكسر في سقوطي.. ويحاولون أن يعيدوا تركيب أجزائي.
قصيدة: (الدمية).
إن المازوخية التي لا مفر منها والروح الإنهزامية تنعكس في قصيدة راب بشكل متوافق كفاية مع النسوية لدى رابيكوفيتش. وفيما يكتب جيل راب الأقدم الشعر الحر مقدما لمسة مناسبة من التحررية, فإن جيل رابيكوفيتش الأصغر يوظف أسلوب القصيدة المنظومة. وهناك الكثير مما يصلح للتعميم حول الحركات الشعرية.
أما بالنسبة للشعراء الذكور فإن نزوعهم نحو الاحتفاء بحب الأنثى ليس بمعزل عن التشكك:
يقول يوناتان راتوش (1909- .... ) في قصيدة (المليون).
في الماضي –تماما كما هو الحال الآن- كان هنالك مليون امرأة في هذا العالم –طاهرات أو عاهرات-
دعوه يأخذهن جميعا وحتى آخر واحدة من المليون الممتلئات بالعشق, فأنا لا أحتاج سوى امرأتي تلك التي أعددت نفسي لأصنع معها البهجة.
إن نفس الأسلوب على حريته يعارض نفسه أحيانا بالاعتراضات ثنائية الجانب للمتكلم, الذي يطوق إعجابه بمقدار خفيف من الإزعاج. كما يقول يهودا أميخاي (1924- ....):
لأجل حبيبتي, التي تمشط شعرها بلا مرآة وتغني بقربي: لقد غسلت شعركَ بالشامبو يا حبيبي.. اشتياق هائل يفوح من الحنين الذي في رأسك.
لأجلكِ يا حبيبتي ترتعش من تحتنا الأرض. فلنستلقِ محتضنين بعضنا, كالقفل المزدوج.
هنا نجد ثانية بصيص التقليد في الافتتاحية التوراتية وفي الإغراق في الأحاسيس الباطنية التي تعكسها الرائحة المنبعثة من شعر الحبيب وفي الصورة الجنسية في الخاتمة.
الأصوات الشعرية الثابتة:
إن الخط البياني للحركات الشعرية صعودا وهبوطا يملك لحسن الحظ هامش عمودي من الشعراء الذي تجاوزوه والذين ما يزالون محتفظين بصوتهم ومبقين على ذواتهم الحقيقية, فيما كيفوا أسلوبا جديدا هنا وهناك وتقنية جديدة جديرة بالاعتماد.
ولد موشيه دور في 1932 في تل أبيب واعتنق رأي زاخ في الانسحاب من اليقينية. كيف يمكن للأب أن يزرع الإحساس بالأمان؟ عندما يقول:
أنا في ضياع على هذا الشارع ذاته الذي انتظمت بيوته وحدائقه كطاولات المقهى.
يدي ما تزال في يد ابني وما تزال نظرته محدقة في وجهي
قد لا تتزحزح سفينته..
فيما أنا أتظاهر بالشجاعة واللياقة.
قصيدة (في ضياع)
ليس لدى دور إجابة. وهو لا يتردد بعد سنين من ذلك, فيما يتعامل مع عدم أمان آخر –المتعلق بكبر السن- في توظيف التفعيلات والإيقاعات الوزنية:
حبيبتي, ليست هذه الطريقة التي صورتُ بها حياتنا عندما احترقنا حتى التوهج بالبحر المتوسط,
لقد ابتلعنا المسافة كعشرين سنة مضت, وعميت أعيننا بالنار والاشتياق.
العالم الآن لوحة فلمنكية, ونحن في داخلها.. في تدرجات الألوان الزيتية الداكنة.
إن كان صحيحا الآن أن ملاكا ما يطرق بابي, فأنا لا رغبة لي بأن أعرف أنباء الله.
قصيدة (لوحة فلمنكية)[5]
إيلي نيزير ولد عام 1933 في بودابست. وبالرغم من أنه خدم في عدة مراكز ثقافية في الخارج, فإن حقيقة أنه عاش في كيبوتز داليا منذ وصوله إلى إسرائيل عام 1949 قد أضفت على شعره صفاء وهدوءا يحسد عليه حتى إن سخريته قد تلاشت:
أخرج ثيابي القديمة من الخزانة
وأكسو بها جسدي
إن ثيابي القديمة حقا هي الأفضل..
هكذا كتب في قصيدة (ثيابي المفضلة), لماذا؟ لأنها تعبق بالأريج الأصلي وبالذكريات الحميمة وبالعاطفة أيضا. فالعاطفة في أشعار نيزير لا خلاف عليها.
زافريرا جار التي ولدت في بيتاتش تيكفا عام 1926 غنت لعقود بلا صخب موسيقي. وانقسمت أعمالها إلى نمطين بارزين. النمط الأول وظفت فيه الإدهاش وغالبا التخييل الطباقي كالضوء –الشمس- والعتمة, الحياة والموت, التفاحة والدودة.
في قصيدة (لطخة على الشمس) تصف الكسوف:
سنسرق نظرة أخرى ثم نشيح بعيدا. وللحظة طويلة, قبالة الجفون المحترقة, سنستبقي حواف الشمس التي تحترق كالحديد المحمى من تحت السحاب, قبل أن تهبط ثم تغيب.
فيما يحمل نمط جار الآخر حميمية كل من والت ويتمان ومعاصرتها الأصغر داليا رابيكوفيتش. وهي هنا تختار شخصيات عديدة لتوظيفها: كومبارس وأولاد وأليس في بلاد العجائب:
أنظر أيها الزئبق التافه! كيف أحتفظ بضئآلتي فيما يتطاول عنقي كالسلم.
لقد شهدتُ كل ما أردت معرفته –في حديقة أوراق اللعب وفي زحف الجيوش الكرتونية والملكة التي أمرت بقطع رأس أي متمرد- لقد شهدته حتى الخاتمة المريرة.
قصيدة ( أليس تخاطب الكأس المحدق)[6]
النمط هنا سهل, وغالبا نثري الطابع, والتشخيص يحل محل التصوير القوي.
ولد إم أنفريد وينكلر في رومانيا عام 1922 وقدم إلى إسرائيل في 1959 وكان قد كرس بطريقة ما كشاعر عرف باسم اللسان القاتل. في دائرة أخرى تكاد تنغلق قام حديثا باستئناف تجربته الشعرية وقام هذا الخريف بتقديم قراءة شعرية في ميونخ. وإن أعماله العبرية هي الأقوى حتى الآن في اصطباغها بشدة العاطفة. إنه شاعر الرقة, الذي يغلف الألم والحزن أغلب أعماله. حتى قصائد الحنين تنتهي بتعليقات سوداوية, في قصيدة (المساء يطبق علي):
الليل يطبق علي كصدفة بحر سوداء, والسمك يهاجر على جسدي..
وعندما غنى للتوليب الأبيض الذي:
يشارف على الموت, ولا أحد قادر على حفظ التوليب الأبيض من الجفاف العظيم...
في قصيدة ( التوليب الأبيض), حيث يعكس بأفضل رمزية على طريقته موت الكثير من الجنود الإسرائيليين الشبان. إن تأثير الشاعر الروماني اليهودي الآخر العظيم باول كيلان ليس أقل منه اجتياحا في قصيدة الهولوكوست المعنونة بما يناسبها:( مذكرات من فكرة باول كيلان)[7]:
اقتادوا والديك في عربة يقودها الثور إلى مكان لم يكن بعيدا وراء السبت الأخير. خازيديم يرقص في السماوات, حيث لا كلام هناك, حيث الكلمات صامتة, وما من ساحات مكتظة بالناس.
أخيرا, نعود إلى الجيل الأسبق, هناك صاموئيل شاتال (1913-....) في بينسكا الذي جاء إلى فلسطين عام 1929.
مهندس بالحرفة ولذا فمن الملائم أن تصقل أفكاره وتنظم كالحجارة في صف وبشكل مرتب:
الحجر العابث بالريح أعمل خياله وحفر في عيون الريح وردة شاحبة.. إنني أقتلعها.
قصيدة (الشتاء)
ولم يكن مفاجئا أن أحدث إصداراته الشعرية عنونها بالحجر.
شاتال الآن في ثمانينياته ومازال يكتب مع شيء من بريق الحب والشبق في عينيه:
كل ملك داود يجب أن يكون له مزاميره الخاصة, حتى ولو من أجل أن يحلم ويعجب بها فقط.
دعوني أختم بثناءات مختصرة للأصوات الخمسة الثابتة, الأكثر تفضيلا بالنسبة لي عبر العديد من الشعراء البارزين الذين ينشدون الآن في الأرض المقدسة:
خمسة منشدين\ طبّال واحد : ثناء
1- موشيه دور
في لوحة فلمنكية صمدت بوجه الأبدية حلمت بشواطئ مشمسة, مندفعا بعاطفة دائمة: الإطار ثقيل والتدرجات داكنة.
2- إيلي نيزير
العث اجتاح ملابسك القديمة, لكنك داومت على ارتدائها, الذكريات تحفظنا دافئيين.
3- زافريرا جار
آه, أليس في بلاد العجائب, حيث صانع القبعات المجنون يطلق النار على الأرنب, وحيث السنجاب هو الجاسوس العربي, لكن عنقك يمتد كالتوليب إلى الشمس وأنت تغنين.
4- إم وينكلر
في صدفة بحرية قرب أذنك يرتطم الماضي بأمواجها, وينسحب, تاركا مشهد الصحراء ذلك الذي أحببته, مرقّطا بحمالي الألم والأخبار التي لا تنتهي.
5- صاموئيل شاتال
الحجر: البداية والنهاية. أنت تبني القصائد, الجسور, والبيوت لأجلنا. وتصقل الحياة لتجعلها محتملة. شكرا لك.
برنارد فرانك
برنارد فرانك هو محرر زائر في قسم (الشعر ثنائي اللغة لكل الإسرائيليين) في مجلة الشعر العالمي, لخريف العام 1996م. ستنشر ترجماته في (بعد المطر الأول: قصائد إسرائيلية عن الحرب والسلام) المكرسة لمذكرات ييتزاك رابين. نشرت قصيدته: مرثاة لجيل أبي, في مجلة (اليهودية) في خريف 1994م.
[1] جميع الشواهد مترجمة من قبل برنارد فرانك عدا تلك المشار لها فهي من (الشعر العبري الحديث) : مجلة ايوا الجامعية, مدينة ايوا, 1980م.
[2] مسميات لأجزاء من اللباس الديني اليهودي (المترجم).
[3] مجلة كولورادو خريف/شتاء 1988 صفحة 74
[4] مجلة ويبستر, خريف 1994, صفحة 12.
[5] مجلة شعر الشرق ربيع 1995 صفحة 25
[6] مجلة الجديد في الشعر العالمي , خريف 1996
[7] مجلة الملف, شتاء 1994, صفحة 26
وحتى عندما وظف ذاكرته الشخصية فقد أنشد بياليك بطاقة عظيمة كما نرى في الأسطر التي في مطلع قصيدته (أبي):
غريبة كانت طريقة حياتي وعجيبة كانت أحوالها,
بين البوابة الجرداء والعربة الملوثة هي دورة أيامي: من الإنغماس بالتعبد إلى الفساد, ومن الطهارة إلى القذارة
نرى الرعب وما يلاحظه الطفل في الخان المليء بالمخبولين غير اليهود
الرزق الأبوي, والكرب التالي عندما يغادر حضن الله كل صباح,
الربيع التام لحياته, عندما يضع جانبا كساءه المقدس: التاليت والتوتافوت[2] ..
لقد قام بياليك -بشكل لا مناص منه ربما- بالانهماك بعمله, وعكَس كلا من الطاقة والحساسية الروسية الخاصة التي انتقدها بقسوة. وقد كان النظير لعمله متمثلا في النمط العام الفعال من الشعر عند حابيما الشاعر الشهير وعند النجم حناه روبينا وخصوصا في الإيماء الرفيع والصوت المفخم.
وإن هذه التقنية هي التي حولت الجيل الجديد ليقف ضد بياليك. أي جيل الفترة الفليسطينية الذين دعوا أحيانا بشعراء المدن, بقيادة أبراهام شلونسكي الذي وجد أعمال بياليك ذات مرجعية أخلاقية شديدة, ولغتها متصلة بقوة بلغة التوراة, فروحهم التي طرأ عليها النزوع إلى الاستقلالية والحرية لم تقبل لقلوبهم أن تلبس رداءا موحدا, ولم تقبل ذهنية اليهودي كضحية, على الرغم من أن قصائد بياليك في عدة مرات قرّعت الجماعات الورعة على استسلاميتها. وقد كان تقييم شلونسكي لشعر بياليك في 1931 أنه شعر قديم ومحافظ.
لقد دافعت المدرسة الحديثة عن الأسلوب ذو النزوع الغربي أكثر من أسلوب لغة بياليك الصافية ذات الجذور التوراتية, ففضلت الرقة في العاطفة والرموز الميالة للوضوح والنصوص ذات المسحة الغربية على العواطف والانفعالات العائدة إلى شرق أوروبا. كما أخذت بعين الاعتبار مدرسة الزراعيين التي نشأت في بدايات القرن العشرين, والشعراء الاجتماعيين الذين كتبوا أغاني وطنية واحتفوا بالروح الريادية. القصائد الأكثر تذكرا من هؤلاء هي قصائد راحيل بلوشتين التي لحنت وأصبحت أغنيات شعبية. فقد فضل الشعراء المدنيين مدنيتها وذلك القلق واليأس الذي يأتي معها.
في قصيدة (هذه الليلة) لناتان الترمان (1910-1970) وصف لعلاقة حب تفشل في ظل مشهد مديني:
هذه الليلة. التوتر في هذه الجدران. صوت يستيقظ ويأمر. صوت يستجيب وينقطع. عناق فاتر. ووميض ابتسامة متكلفة. الحياة والموت في شمعة. ثم القمر الذي يتقنع بأقنعة من التحديق الجليدي للشمع, النافذة, مشهد الطبيعة, وبناء السوق الهاجع, والمشلول بضربة من الأيدي الممتدة الوحشية للمركبات والروافع.
يأخذ شلونسكي (1900-1973) اليأس المدني خطوة أبعد في قصيدته (خطبة جون دو حول جيرانه):
لبناء شقتي خمس حكايات.. لكن بالنسبة إلى تلك التي قفزت من النافذة المقابلة, فإن ثلاث من تلك الحكايات كانت كافية جدا..
كما أن ليه غولدبيرغ (1911-1970) ربطت القلق المديني مع العجز المصاحب للتقدم بالسن في قصيدة (حول مخاطر التدخين):
صباح ممطر. لا تنهض. ولا تدخن أيضا. لا تقرأ كثيرا. أليس هذا ربيعا غريبا, أليس ربيعا غريبا! وكأن العتمة في الصباح..
ولأن لكل موجة حركة مضادة, فقد تم عزل هؤلاء الشعراء الفلسطينيين من قبل الجيل الأصغر بقيادة ناتان زاخ, هذا الجيل المتضمن لمواهب متنوعة مثل يهودا عميحاي, دان باجيس, داليا رابيكوفيتش, وديفيد أفيدان. والمشتركين ببغضهم للمدرسة الأقدم أكثر من أي عقيدة فنية لهم, فقد ابتكر هؤلاء الشعراء ما يسمى بالانسحاب من اليقينية, واستحدثوا استخدام السخرية, وكلا الأمرين يمكن أن تجدهما في قصيدة عميحاي (أبي):
وبعينه جمع الأموات الذين لا أسماء لهم, عدد وفير منهم جمعهم باسمي, حيث أستطيع تمييزهم في نظرته الخاطفة وأحبهم
الموت لا يكون هكذا.. بالخوف القاتل...
لقد ثبت عينيه معهم وما زال يخطئ قائلا: لكل معاركي أنا متيقظ.
كما تم دمج السريالية في هذه الفترة مع العقلانية (التفكيرية) كما في قصيدة باجيس (الفيل):
إنه يتخطى السادس عشرة بطريقة مدهشة كساعة اليد المضبوطة, ويعبر أربعة بكل قدم, كما ينزلق عليها بسهولة بواسطة المزاليج متخلصا من ضخامته الفيلية.
وفي أعمال رابيكوفيتش مشاهد خاصة من اللاوعي تمضي يدا بيد مع النسوية كما في قصيدتها (الفستان):
ماذا سيجري لك, قالت, لقد فصلوا لك فستانا براقا.
لقد فصلوا لي فستانا براقا, قلتُ, أعرف هذا.
إذن ماذا تنتظرين, قالت, كوني حذرة, ألا تعلمين ماذا يعني الفستان البراق؟
أعرف, قلت, لكني لن أكون حذرة. ذلك الأريج القديم يربك عقلانيتي. وقلت لها: ليس لأحد حاجة في أن ينسجم معي فأنا لا أضع الحمقى في المآسي الإغريقية.
ولكن العدالة الشعرية أخذت طريقها, فهؤلاء الذين عزلوا غيرهم تم عزلهم كذلك, والموجة التالية من الشعراء الأصغر, ومنهم مائير فيزلتير وبنخاس صادح ويونا فالاخ, ويائير هورفيتس تبنوا النمط الذي يتماشى مع النظر إلى الخارج بدلا من الداخل. وتم اقتراح أن هؤلاء الشعراء قد أكملوا الدائرة الفنية لبياليك, وطالما أن دوائر التاريخ لا تنغلق أبدا فإنهم في قد شكلوا بذلك حلزونا. وإن موقف (الأغراض الرجيمة) للشعراء الأصغر هؤلاء قد تصالح وإن بصعوبة مع لغة بياليك:
القذيفة ترسم ضوءها في السماء, وتقطر دفئا نقيا من الضوء, ثمارها الاحتفالية تضرم الزرقة في بركتها خارجة من عتمة البذور. أحلم بصخرة محطمة يجري على وجهها الماء, لأرى الجداول في ليل نقي.
في هذه القصيدة لهورفيتس ( في ليل نقي) يتغلب الأسلوب والصورة على المعنى. وفي قصيدة ويستلير (الحذر يقي من النكبات) فإن الأسلوب يندمج مع سياسة الالتزام:
بحذر اجتمع وزير الخارجية مع وزير الدفاع
بحذر أصدر وزير الدفاع أوامره إلى قائد الطيران
بحذر أبعد التلاميذ دراجاتهم من بين الغيوم
بحذر ناور بائع الخضار بين الفواكه والعسل
أما القصيدة بعد خمس وعشرين خطا من الحذر المنسق فقد أنهت بقوة هدوءا غريبا كما لم نعرفه من عصور.
المواضيع:
طالما كانت هناك حركات عديدة قصيرة متعاقبة فإنها غالبا سوف تنهار كفقاعة الخبز عندما يدخل من الخارج عبر باب الفرن هواء بارد. ويمكننا أن نرى الآن أن القصائد التي عالجت الموضوع ذاته تغلبت في أغلب الأوقات على تقلبات الموضات الشعرية العابرة. وهي لم تكن فقط الأصوات الحزينة التي صورت الهلوكوست غالبا وإنما أيضا كانت الصدى لاستجابة بياليك العميقة للمذابح.
يوري زفاي غرينبيرغ (1894- ....) وصف إبادة الشعب اليهودي الأوربي من خلال صورة عنيفة:
حتى الطيور نفسها لا تدري من قص لها جناحها. انظر ولاحظ, فيما هي تحلق في الهواء تميل إلى جانب واحد..
ولا حتى قطرات الدم تدري ولا الذاكرة متى ستصنع الطيور رحلة عادلة بزوج من الأجنحة.
قصيدة: (القص)
وإليكم أبا كوفنر (1918- ....)
كان أبونا, شاكرا لله, يأخذ خبزه من نفس الفرن لأربعين سنة. لم يكن ليتخيل أبدا أن أناسا سالمين قد يقضون في الأفران وفي هذا العالم, توكل على الله وتابع السير..
قصيدة: (أختي تجلس مبتسمة)[3]
و إتمار يا اوز كيست (1934- .... ):
في قطار سكة الحديد, المشهد مأخوذ بالرعب, ويقلب مرتبكا صفحاته: الشجر, السماء, الأنفاق...
وفي القطار, يقوم الحارس ضاحكا بقطف رأس بهيمة نابت على عنقها.
قصيدة: (المحاكمة بالنار)
على الرغم من أن كوفنر أكثر مباشرة و يا اوز كيست أكثر رمزية فإن كلا الصوتين اشتركا في الألم والغضب:
شعراء متنوعون اشتركوا أيضا في تلك النبرة العميقة من الحب لمشاهد الطبيعة الإسرائيلية:
الشمس لا تنشر إلا ياسمينها, الحجارة ليس لها صوت سوى صوت نبض القلب, الغروب مكتس بالبرتقالي الشفيف, والرمال ليست سوى الشفاه التي تقـبّـل.
ليه غولدبيرغ, قصيدة: (شمسين نيسان)
ويقول هورفيتز أيضا (1941- ....) في قصيدته (لأجل حبيبتي التي تنهض باكرا):
المساء الصامت الصامت يمر عبر الشجرة والقلب. الأرض تسلم وجهها إلى بركة السماء, وزفير الرياح البارد ينثر العتمة في الأوراق الملتفة, ويعلن للشجيرات المشتاقة عن قدوم المطر إلى الجذور الظمآنة.
بالرغم من إيقاعات غولدبيرغ, وتوظيف المجازات الواضحة, فإن هورفيتز يعتمد على الإيقاع بطريقة أكثر صخبا, ويضفي لمسة من السوريالية, وهما يتشاركان بعاطفتهما تجاه الأرض. وهذه العاطفة ليست أكثر بروزا منها بالنسبة للشعراء الذين يكتبون من الخارج:
يقول موشيه دور (1932- .... ) في (طيور البلشون قد عادت)[4]:
طيور البلشون قد عادت إلى بحيرة هولا, إلى أدغال القصب وجداول المياه التي تحافظ على الإنسياب بهدوء بالرغم من شبكة مصارف المياه والأحلام. مترقبي الطيور يقولون إن طيور المستنقعات النادرة هي هناك الآن ويمكن مشاهدتها.
أما هنا فإن الأشجار المعدنية تتجمد في الظلال الباردة للأبيض والرمادي...
إن حب الوطن وذكريات الماضي البشع تتوحد بقوة في القصيدة عندما يتحدث الشعراء عن الصراع الإسرائيلي العربي والحرب. ففي قصيدة (قطر القنبلة كان ثلاثين سنتمترا) يصبح صوت أميخاي نثريا عندما يثرثر بيانا حول النتائج:
.. بلغ قطر انفجارها حوالي سبعة أمتار وقد قُتل بها أربعة وأصيب إحدى عشر.
لا لن أشير حتى إلى صراخ الأيتام الذي وصل إلى عرش الله واندفع من هناك مشكلا دوائر من اللا إيمان واللا نهاية.
.. (لا لن أشير حتى)؟ لكنه يفعل ذلك بالطبع ويضرب ضربته في بيت القصيد بطريقة أكثر براعة, لكنها ليست أقل مرارة من صرخة بياليك الأولى في قصيدته (عن المذبحة):
آه أيتها السماوات, تشفعي لي! إن كان هنالك رب يحشر الناس فيك فقد فاته إدراكي ولذا عليك أن تصلي لأجلي!.
أما شعر الحب فقد كان متجاوزا بالطبع لكل الاتجاهات الشعرية والأزمنة, مع أنه يميل إلى الانقسام على طول الخط الفاصل بين الجنسين. إليكم أيستر راب (1899-....):
ذراعاي ممتدان إليك, إلى شرارة الضوء في نظرتك الخاطفة, إلى ومض أسنانك على جسدي الواهن الأصفر..
قصيدة: (ذراعاي ممتدتان إليك).
وكذلك داليا رابيكوفيتش(1936- ....):
في تلك الليلة لم أكن سوى دمية أدار إلى اليمين واليسار, وإلى كل اتجاه, وأكب على وجهي, فأتكسر في سقوطي.. ويحاولون أن يعيدوا تركيب أجزائي.
قصيدة: (الدمية).
إن المازوخية التي لا مفر منها والروح الإنهزامية تنعكس في قصيدة راب بشكل متوافق كفاية مع النسوية لدى رابيكوفيتش. وفيما يكتب جيل راب الأقدم الشعر الحر مقدما لمسة مناسبة من التحررية, فإن جيل رابيكوفيتش الأصغر يوظف أسلوب القصيدة المنظومة. وهناك الكثير مما يصلح للتعميم حول الحركات الشعرية.
أما بالنسبة للشعراء الذكور فإن نزوعهم نحو الاحتفاء بحب الأنثى ليس بمعزل عن التشكك:
يقول يوناتان راتوش (1909- .... ) في قصيدة (المليون).
في الماضي –تماما كما هو الحال الآن- كان هنالك مليون امرأة في هذا العالم –طاهرات أو عاهرات-
دعوه يأخذهن جميعا وحتى آخر واحدة من المليون الممتلئات بالعشق, فأنا لا أحتاج سوى امرأتي تلك التي أعددت نفسي لأصنع معها البهجة.
إن نفس الأسلوب على حريته يعارض نفسه أحيانا بالاعتراضات ثنائية الجانب للمتكلم, الذي يطوق إعجابه بمقدار خفيف من الإزعاج. كما يقول يهودا أميخاي (1924- ....):
لأجل حبيبتي, التي تمشط شعرها بلا مرآة وتغني بقربي: لقد غسلت شعركَ بالشامبو يا حبيبي.. اشتياق هائل يفوح من الحنين الذي في رأسك.
لأجلكِ يا حبيبتي ترتعش من تحتنا الأرض. فلنستلقِ محتضنين بعضنا, كالقفل المزدوج.
هنا نجد ثانية بصيص التقليد في الافتتاحية التوراتية وفي الإغراق في الأحاسيس الباطنية التي تعكسها الرائحة المنبعثة من شعر الحبيب وفي الصورة الجنسية في الخاتمة.
الأصوات الشعرية الثابتة:
إن الخط البياني للحركات الشعرية صعودا وهبوطا يملك لحسن الحظ هامش عمودي من الشعراء الذي تجاوزوه والذين ما يزالون محتفظين بصوتهم ومبقين على ذواتهم الحقيقية, فيما كيفوا أسلوبا جديدا هنا وهناك وتقنية جديدة جديرة بالاعتماد.
ولد موشيه دور في 1932 في تل أبيب واعتنق رأي زاخ في الانسحاب من اليقينية. كيف يمكن للأب أن يزرع الإحساس بالأمان؟ عندما يقول:
أنا في ضياع على هذا الشارع ذاته الذي انتظمت بيوته وحدائقه كطاولات المقهى.
يدي ما تزال في يد ابني وما تزال نظرته محدقة في وجهي
قد لا تتزحزح سفينته..
فيما أنا أتظاهر بالشجاعة واللياقة.
قصيدة (في ضياع)
ليس لدى دور إجابة. وهو لا يتردد بعد سنين من ذلك, فيما يتعامل مع عدم أمان آخر –المتعلق بكبر السن- في توظيف التفعيلات والإيقاعات الوزنية:
حبيبتي, ليست هذه الطريقة التي صورتُ بها حياتنا عندما احترقنا حتى التوهج بالبحر المتوسط,
لقد ابتلعنا المسافة كعشرين سنة مضت, وعميت أعيننا بالنار والاشتياق.
العالم الآن لوحة فلمنكية, ونحن في داخلها.. في تدرجات الألوان الزيتية الداكنة.
إن كان صحيحا الآن أن ملاكا ما يطرق بابي, فأنا لا رغبة لي بأن أعرف أنباء الله.
قصيدة (لوحة فلمنكية)[5]
إيلي نيزير ولد عام 1933 في بودابست. وبالرغم من أنه خدم في عدة مراكز ثقافية في الخارج, فإن حقيقة أنه عاش في كيبوتز داليا منذ وصوله إلى إسرائيل عام 1949 قد أضفت على شعره صفاء وهدوءا يحسد عليه حتى إن سخريته قد تلاشت:
أخرج ثيابي القديمة من الخزانة
وأكسو بها جسدي
إن ثيابي القديمة حقا هي الأفضل..
هكذا كتب في قصيدة (ثيابي المفضلة), لماذا؟ لأنها تعبق بالأريج الأصلي وبالذكريات الحميمة وبالعاطفة أيضا. فالعاطفة في أشعار نيزير لا خلاف عليها.
زافريرا جار التي ولدت في بيتاتش تيكفا عام 1926 غنت لعقود بلا صخب موسيقي. وانقسمت أعمالها إلى نمطين بارزين. النمط الأول وظفت فيه الإدهاش وغالبا التخييل الطباقي كالضوء –الشمس- والعتمة, الحياة والموت, التفاحة والدودة.
في قصيدة (لطخة على الشمس) تصف الكسوف:
سنسرق نظرة أخرى ثم نشيح بعيدا. وللحظة طويلة, قبالة الجفون المحترقة, سنستبقي حواف الشمس التي تحترق كالحديد المحمى من تحت السحاب, قبل أن تهبط ثم تغيب.
فيما يحمل نمط جار الآخر حميمية كل من والت ويتمان ومعاصرتها الأصغر داليا رابيكوفيتش. وهي هنا تختار شخصيات عديدة لتوظيفها: كومبارس وأولاد وأليس في بلاد العجائب:
أنظر أيها الزئبق التافه! كيف أحتفظ بضئآلتي فيما يتطاول عنقي كالسلم.
لقد شهدتُ كل ما أردت معرفته –في حديقة أوراق اللعب وفي زحف الجيوش الكرتونية والملكة التي أمرت بقطع رأس أي متمرد- لقد شهدته حتى الخاتمة المريرة.
قصيدة ( أليس تخاطب الكأس المحدق)[6]
النمط هنا سهل, وغالبا نثري الطابع, والتشخيص يحل محل التصوير القوي.
ولد إم أنفريد وينكلر في رومانيا عام 1922 وقدم إلى إسرائيل في 1959 وكان قد كرس بطريقة ما كشاعر عرف باسم اللسان القاتل. في دائرة أخرى تكاد تنغلق قام حديثا باستئناف تجربته الشعرية وقام هذا الخريف بتقديم قراءة شعرية في ميونخ. وإن أعماله العبرية هي الأقوى حتى الآن في اصطباغها بشدة العاطفة. إنه شاعر الرقة, الذي يغلف الألم والحزن أغلب أعماله. حتى قصائد الحنين تنتهي بتعليقات سوداوية, في قصيدة (المساء يطبق علي):
الليل يطبق علي كصدفة بحر سوداء, والسمك يهاجر على جسدي..
وعندما غنى للتوليب الأبيض الذي:
يشارف على الموت, ولا أحد قادر على حفظ التوليب الأبيض من الجفاف العظيم...
في قصيدة ( التوليب الأبيض), حيث يعكس بأفضل رمزية على طريقته موت الكثير من الجنود الإسرائيليين الشبان. إن تأثير الشاعر الروماني اليهودي الآخر العظيم باول كيلان ليس أقل منه اجتياحا في قصيدة الهولوكوست المعنونة بما يناسبها:( مذكرات من فكرة باول كيلان)[7]:
اقتادوا والديك في عربة يقودها الثور إلى مكان لم يكن بعيدا وراء السبت الأخير. خازيديم يرقص في السماوات, حيث لا كلام هناك, حيث الكلمات صامتة, وما من ساحات مكتظة بالناس.
أخيرا, نعود إلى الجيل الأسبق, هناك صاموئيل شاتال (1913-....) في بينسكا الذي جاء إلى فلسطين عام 1929.
مهندس بالحرفة ولذا فمن الملائم أن تصقل أفكاره وتنظم كالحجارة في صف وبشكل مرتب:
الحجر العابث بالريح أعمل خياله وحفر في عيون الريح وردة شاحبة.. إنني أقتلعها.
قصيدة (الشتاء)
ولم يكن مفاجئا أن أحدث إصداراته الشعرية عنونها بالحجر.
شاتال الآن في ثمانينياته ومازال يكتب مع شيء من بريق الحب والشبق في عينيه:
كل ملك داود يجب أن يكون له مزاميره الخاصة, حتى ولو من أجل أن يحلم ويعجب بها فقط.
دعوني أختم بثناءات مختصرة للأصوات الخمسة الثابتة, الأكثر تفضيلا بالنسبة لي عبر العديد من الشعراء البارزين الذين ينشدون الآن في الأرض المقدسة:
خمسة منشدين\ طبّال واحد : ثناء
1- موشيه دور
في لوحة فلمنكية صمدت بوجه الأبدية حلمت بشواطئ مشمسة, مندفعا بعاطفة دائمة: الإطار ثقيل والتدرجات داكنة.
2- إيلي نيزير
العث اجتاح ملابسك القديمة, لكنك داومت على ارتدائها, الذكريات تحفظنا دافئيين.
3- زافريرا جار
آه, أليس في بلاد العجائب, حيث صانع القبعات المجنون يطلق النار على الأرنب, وحيث السنجاب هو الجاسوس العربي, لكن عنقك يمتد كالتوليب إلى الشمس وأنت تغنين.
4- إم وينكلر
في صدفة بحرية قرب أذنك يرتطم الماضي بأمواجها, وينسحب, تاركا مشهد الصحراء ذلك الذي أحببته, مرقّطا بحمالي الألم والأخبار التي لا تنتهي.
5- صاموئيل شاتال
الحجر: البداية والنهاية. أنت تبني القصائد, الجسور, والبيوت لأجلنا. وتصقل الحياة لتجعلها محتملة. شكرا لك.
برنارد فرانك
برنارد فرانك هو محرر زائر في قسم (الشعر ثنائي اللغة لكل الإسرائيليين) في مجلة الشعر العالمي, لخريف العام 1996م. ستنشر ترجماته في (بعد المطر الأول: قصائد إسرائيلية عن الحرب والسلام) المكرسة لمذكرات ييتزاك رابين. نشرت قصيدته: مرثاة لجيل أبي, في مجلة (اليهودية) في خريف 1994م.
[1] جميع الشواهد مترجمة من قبل برنارد فرانك عدا تلك المشار لها فهي من (الشعر العبري الحديث) : مجلة ايوا الجامعية, مدينة ايوا, 1980م.
[2] مسميات لأجزاء من اللباس الديني اليهودي (المترجم).
[3] مجلة كولورادو خريف/شتاء 1988 صفحة 74
[4] مجلة ويبستر, خريف 1994, صفحة 12.
[5] مجلة شعر الشرق ربيع 1995 صفحة 25
[6] مجلة الجديد في الشعر العالمي , خريف 1996
[7] مجلة الملف, شتاء 1994, صفحة 26
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في مجلة نزوى العدد 51
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق